المصريون
د. حسام عقل
د. سعد الهلالي ..هل سيأكل (ورق الشجر) معنا ..؟!
تحدثت في المقال الماضي عن د ( سعد الهلالي ) , الذي خاطر _ للمرة الأولى في تاريخ المؤسسة الأزهرية ! _ بإنكار فرضية ( الحجاب ) تماما ً أو أطاح بوجوبية التغطية لشعر المرأة من الأصل , متحديا ً بإصرار واضح الدلالات اللغوية و الشرعية الصحيحة في قوله _ تعالى _ : ( ..و ليضربن بخمرهن على جيوبهن ..) , و بينت أن د الهلالي لو عاد إلى التأصيل اللغوي لكلمة : ( الاختمار ) _ كما صنع الفقيه الحق الحافظ ( ابن حجر ) ! _ لفهم أن الدلالة اللغوية للفظة ( الاختمار ) تعني _ في ميكنة الاختمار و آليته _ أن ( ..أن تضع المرأة الخمار على رأسها و ترميه من الجانب الأيمن على العاتق الأيسر ..) ( راجع التعريف ) , و هو التأصيل اللغوي الذي بينه بوضوح ( ابن حجر ) , بما يعني أن الحركة العلوية الماثلة في دلالة الاختمار تقتضي _ باللزوم و الضرورة _ تغطية شعر الرأس لأن تحريك الخمار من الجانب الأيمن إلى العاتق الأيسر لا بد أن يمر بشعر الرأس ! و لو كان للدكتور الهلالي حس قوي بالدلالة اللغوية للكلمات و النصوص التي يحشو بها الشاشات , لأغنانا عن الاستدلالات المهلهلة الضحلة , شديدة الضعف , التي صدع بها رؤوسنا في حواره الأحدث مع ( عمرو أديب ) , و هو الحوار الذي أنكر فيه فرضية الحجاب تقريبا ً و بصورة كلية ! دعونا نقفز فوق قضية الحجاب هنا , و نلتحم بصميم الأوجاع المصرية الأهم , ذات الأولوية , في سياق بياننا للدور الفقهي و الشرعي و الفكري ( المعيق ) الذي يلعبه د سعد الهلالي _ و من ترسم نهجه و سار على طريقته _ في إرباك الأولويات و التلاعب السيكولوجي الخطير بالوعي الجماهيري و خلط الخطوط أمام الناس _ بتدليس مكشوف _ لتبرئة السلطة و حمايتها من غضبة الجماهير بتفجير ( المعارك الكرتونية ) في الاتجاه الخطأ في إطار ما أسميناه ب ( الإلهاء الاستراتيجي ) , و صرف الأنظار عن القضايا الأهم في ضوء فقه الأولويات و ( مراتب الأعمال ) ! و هو الفقه الناضج الذي كان يتعين أن يقودنا إلى ( حريات ) الجماهير و كرامتها , و ( رغيفها ) المسلوب ! و شهادة حق لله , لم يقل د / ( الهلالي ) في أي من القضيتين المصيرتين كلمة واحدة , أو حتى ربع كلمة ! تكمن أزمة د ( الهلالي ) أو أزمتنا معه _ كما بينت _ في افتقاره التام لأي حس لغوي في التعامل مع النصوص بسبب من ضعفه الشديد في اللغة العربية , نحوا ً و صرفا ً و اشتقاقا ً و معجما ً ! و هو ما يظهر بوضوح عندما يتخلى عن طريقة السرد _ بمنطق الحواديت و التبسيط المسطح _ و هو الأسلوب الذي دأب عليه أمام الشاشات , و يحاول أن يتكلم بالفصحى , فتتبعثر منه الأخطاء اللغوية الساذجة و مظاهر اللحن المكشوف , بطريقة متهاوية تثير الشفقة ! ليست قضية اللغة هنا شيئا ً ثانويا ً , يمكن تجاهله , لأن ضعف د ( الهلالي ) في اللغة , قاده إلى استدلالات فقهية كارثية , كان يكفي في تجنبها مجرد الفهم اللغوي المنضبط للكلمات و العبارات و النصوص ! و هنا يتعين لي أن أنصحه و أنصح نفسي _ إذا كان لمثلي أن ينصح ! _ بالرجوع إلى كتاب المفكر و المجتهد الأزهري الكبير : ( محمد مصطفى المراغي ) ( 1881 _ 1945 ) . و هو الكتاب القيم المؤسس الذي وضع له ( المراغي ) عنوان : ( الاجتهاد ) , و بين فيه أصول الاجتهاد و شروطه و آلياته و آدابه . فمضى يتحدث عن توافر الشروط اللازمة في المجتهد , و أبرزها الإلمام ب ( المدارك الشرعية ) الأربعة : الكتاب و السنة و الإجماع و العقل , هو ما يقتضي الإلمام بعلوم الآلة الأربعة : نصب الأدلة و إقامتها , و معرفة اللغة و النحو , و الوقوف على ( الناسخ و المنسوخ ) , و معرفة الرواية و تمييز الصحيح منها و الفاسد . و هنا يظهر بوضوح مكمن الضعف في في استدلالات د ( الهلالي ) _ عموما ً _ حيث كان يتعثر في كل مرة عند محطة اللغة و يرسب تقريبا ً في اختباراتها التي تقود حتما ً إلى فهم النصوص أو عدم فهمها ابتداء بدلالة اللغة و معانيها و بلاغتها و مراميها ! و تمضي بنا الرحلة _ في هذا الخصوص _ إلى النقطة الثانية من نقاط الضعف في طرح د سعد الهلالي , فمن شروط المجتهد _ كما بين المراغي في باب الاجتهاد المطلق _ أن يكون ( عدلا ً ) مبتعدا ً عن العوامل القادحة في عدالته , و هو ما يقتضي عدم لي عنق النصوص _ بطرقة أكروباتية قائمة على الديماجوجية _ لتفريغ النص نفسه من محتواه الأصلي و صرفه أو توجيهه بتعسف إلى محتويات وهمية أو مضللة ! و عند محطة العدالة , أسأل : هل كان الأجدى في هذا السياق الوطني المحتقن الخطير و الطافح بالأزمات الهيكلية الضخمة للوطن المصري و ( للغلابة ) كما يسمون في أدبيات التعبير الشعبي , دحرجة فتنة ( الحجاب ) و إنكار فرضيته إلى المجالس و البيوت المصرية لتلغيمها و شغلها و شق صفها , أم الحديث بوضوح عن ( الفقراء و المساكين ) و التطرق لكلام الفقهاء عن ( الإغناء ) و ( سد الجوعة ) و ( واجبات الحاكم في توفير حد الكفاية و مراقبة الأسواق لحماية الشعب من المحتكرين ) ؟! كان فقه المال و الاقتصاد دائما ً _ أو قضايا العدالة الاجتماعية عموما ً _ في صدارة الخطاب الفقهي الإسلامي , عبر عصوره الزاهرة , فتحدث الفقهاء بوضوح عن ( حد الفقر ) و ( حد المسكنة ) و الفرق بينهما , و ( حد الكفاية ) ( ( كفاية العام أو كفاية العمر ) , و معنى ( الإغناء ) وواجبات ( الحاكم الصارمة ) في توفير الضرورات الأولية المعيشية : ( مطعم و مشرب ملائم / و كسوة للشتاء و الصيف / و مسكن يليق بحاله ) _ كما بين ( ابن حزم ) في ( المحلى ) _ و عن الإجراءات التشريعية و التنفيذية الضرورية التي يتعين أن ينهض بها الحاكم _ أساسا ً _ لصيانة حق السواد الأعظم من الناس في خبزهم و مساكنهم و سلعهم و مرافقهم , و هو ما بينه ( النووي ) في ( المجموع ) بقوله : ( ..يعطيان ( أي الفقير و المسكين ) ما يخرجهما من الحاجة إلى الغنى ..) بما في ذلك العدالة في توفير الوظائف و توزيعها ! فأين د سعد الهلالي من الفقراء و من ملح الأرض و من التذكير بواجبات الحاكم نحو رعيته و من هذه العناوين الضخمة التي تصدرت الفقه الإسلامي و أبوابه ؟! أم أن التذكير بها سيغدو محرجا ً له أمام السلطة التي احترفت التفريغ التام _ بقسوة تحسد عليها _ لجيوب البسطاء لمصلحة رأس المال السياسي و المحتكرين و دهاقنة الساحل الشمالي ؟! و إذا كان يلوذ ب ( بلاغة الصمت ) أمام الحاكم فلماذا تنفجر فوق لسانه فجأة ( بلاغة الكلام ) أمام المحكوم ( الشعوب وحدها ) ؟! لقد قرر د سعد الهلالي في ( الخيار / شمشون ) أن يكون بوضوح فقيها ً رأسماليا ً منحازا ً للنخبتين : المحتكرة و الحاكمة , فهما مفتاح الثروة و القوة , و لا عزاء للبسطاء و الفقراء و الطبقات المتوسطة و الدنيا ! و هي الطبقات التي نصحها _ قبل أسبوع _ بأن ( تتقشف ) و ( تضع الأحجار على بطنها ) و ( تأكل ورق الشجر محاكاة لصحابة النبي ( صلى الله عليه و سلم ) في أوقات المحن ؟! دون أن يذكر لنا و للجماهير بوضوح أن من دعا لأكل ورق الشجر كان أول الآكلين و الباذلين و المضحين , و لا يوقد في بيته نار للطهو ثلاثة أيام جلدا ً و تحملا ً ؟! وبالمناسبة هل سيأكل د سعد الهلالي معنا ورق الشجر ؟ أم سيكتفي بنصحنا مع بقاء صولاته و جولاته في فضائيات رأس المال السياسي بعقودها المليونية المغرية , و بصورها و لافتاتها الدعائية / الإعلانية التي تصطف بكثرة هائلة على الطريق الدائري و قد تصدرتها جميعا ً صورة د سعد الهلالي بابتسامة ( الجيوكوندا ) التاريخية , فيما يسعل المصريون دما ً من الفقر و الفاقة و غيبة الضروريات المعيشية الأولية ! حين سمع الراحل الكبير ( محمد الغزالي ) أنين مصر الاجتماعي بادر بوضع كتابه الرائد : ( الإسلام و المناهج الاشتراكية ) مذكرا ً بحقوق أساسية للفقراء و ملح الأرض , و مهاجما ً لفجور رأس المال المحتكر ! و حين سمع العظيم ( مصطفى المراغي ) بأنين مصر السياسي تحت ضربات القهر و الاحتلال , بادر في السودان بالتحرك لنجدة منكوبي الثورة ( ثورة 1919 ) , و تعرض لغضبة نائب الحاكم العام الإنجليزي , الذي قال له بعجرفة : ( أنا هنا رئيسك و آمرك بالتوقف عما تقوم به ..! ) فقال له ( المراغي ) : ( رئيسي يوجد في مصر لا السودان ! ) و دفع الرجل ثمن الكلمة الحرة ليخلد في الضمائر ! يا كل فقهائنا تكلموا بعدالة و تجرد و جسارة ..أو اصمتوا , فقد خرجت الشعوب عن الفطام من زمن طويل , و نضجت بأكثر مما تتخيلون ! !

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف