عمنا «بيرتي بدار» وهذا هو اسمه.. كان صاحب أول مجلة بوليسية في عالم الصحافة المصرية في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين... لتخرج لنا ما خفي من شروره و تكشف لنا الغطاء عن آثامه وبصماته القاتلة في عالم الجريمة.. وكان اسمها: «من دفتر البوليس».. وكانت تباع بـ15 مليما.. ولا أحد الآن يعرف المليم أو القرش!
وقد قال لي الزميل العزيز حسين غانم الذي أمضي عمره الصحفي كله في عالم الجريمة والجري وراء القتلة والمجرمين وسفاكي دماء الأبرياء.. ولم يترك قلمه دنيا الجريمة والدم والموت والجري وراء المجرمين والقتلة حتي وهم يقفون علي منصة الإعدام أمام عمنا عشماوي وهو اسم أشهر من يلف حبل المشنقة حول رقبة القتلة في التاريخ الاجرامي في مصر كلها.. بل أن كل من جاء بعده ليتولي مهمة شنق القتلة كانوا ومازالوا يطلقون عليه اسم عشماوي حتي يومنا هذا..
أقول: لقد قال لي الزميل حسين غانم أحسن مخبر صحفي في عالم الجريمة زمان ودلوقتي كمان.. أنه بدأ حياته الصحفية قبل أن يدخل الأهرام محررا صغيرا في هذه المجلة البوليسية العريقة.
ولقد تغيرت الجرائم شكلا وموضوعا مع الأيام عبر مشوار مع الجريمة طوله حوالي أكثر من نصف قرن من الزمان من أيام بيرتي بدار حتي يومنا هذا.. حتي أصبحت الأم تقتل وليدها بدم بارد.. والولد يقتل اباه.. كأنه يشد نفسا من شيشة حمي.. والأب يقتل ابنته لمجرد انها خرجت عن طوعه وتزوجت الشاب الذي تحبه دون اذن مسبق منه!
وأصبحت الأم ـ يا للهول كما قالها يوسف وهبي فنان الشعب في بدايات الأربعينيات من المائة سنة الأخيرة ـ تقتل رضيعها لأنه بكي جوعا وهي ماتزال في أحضان عشيقها وقطع عليها حبل المتعة الحرام!
وتلك الأم الآثمة الأخري التي تركت عشيقها يضرب رضيعها حتي الموت لأنه قطع عليه وعليها حبل متعتهما الحرام برضه!
..........
..........
لو أن عمنا بيرتي بدار هذا ـ الذي قال لي العزيز الغالي حسين غانم في بدايات عملنا في الأهرام أنه كان ضابط شرطة شاطر قبل أن يتفرغ لاصدار مجلته الشهيرة التي كانت أول مجلة بوليسية في بر مصر والعالم العربي كله ـ لو أنه عاد إلينا من عالم الغيب وشاهد جرائما تشيب من هولها الولدان.. فماذا كان يقول؟.. وماذا كان يكتب علي صفحات مجلته البوليسية الأولي: «من دفتر البوليس».. عن جرائم هذه الأيام موديل 2016؟
هو يكتب بقلمه تحت عنوان: يا ساتر يارب: نحن نعيش الآن.. أو أصبحنا نعيش الآن في غابة ناسها ذئاب ونمور وسباع.. وتسرح تحت حشائشها الحيات والثعابين والعقارب من كل صوب وحدب..
لنفتح أولا أمامنا صفحات ملحق الجريمة والعقاب في الزميلة جريدة الوطن عدد السبت الماضي.. ويالهول ما سوف نري ونسمع ونقرأ:
>> سهيلة وهذا هو اسم الضحية وهي الابنة الشابة الصغيرة الشقيانة دنيا وآخرة.. بعد شقي وضني، سنين تزوجت من تحب وتعشق وهو شاب مستقيم جدع من حتتها.. أبوها قتلها.. ليه؟
لأنها علي حد قوله: ماخدتش اذنه عشان تتجوز من تحب!
تحريات البوليس قالت: الأب حبس سهيلة وعذبها حتي فارقت الحياة.. والنيابة تحبسه 15 يوما علي ذمة القضية!
>> ويضرب عمنا بيرتي بدار كفا علي كف وهو يكتب هاتين الحكايتين العجيبتين تحت عنوان: ابناء وآباء آخر زمن.. الابن يقتل اباه والأب يقتل ابنه:
>> ذهب الابن يطلب من أبيه القسط الأول من مصاريف المعهد الذي يدرس فيه ومقداره ألف جنيه من أصل 4 آلاف جنيه.. فرفض.. فقامت مشاجرة بين الاثنين.. انتهت بأن ضرب الابن رأس أبيه في الحائط ليسقط مغمي عليه ثم ما لبت أن لفظ أنفاسه الأخيرة!
>> أما الجريمة الثانية: أب مدمن مخدرات طلب من ابنه عشرة جنيهات عشان يشتري قرص مخدر.. رفض الابن وضربه برقبة قزازة.. وسال الدم ومات!
يعني ابن يقتل اباه عشان ألف جنيه واب يقتل ابنه عشان عشرة جنيهات لاغير.. شوف الدنيا؟
..........
..........
مازلنا نقلب معا صفحات مجلة: من دفتر البوليس ـ لمحررها وصاحبها بيرتي بدار ونقرأ معا ما كتبه في أول صحيفة مصرية تتحدث عن الجريمة والعقاب في زمان الأمانة والشرف والكلمة الطيبة والدين المعاملة: تعالوا نتحاور معه حول زمان جميل مضي.. وزمان تشقلب حاله والله وحده يعلم بأمره.. نعيشه الآن بحلوه ومره.. والمرارة أصبحت تغلب علي الحلاوة كثيرا.. كثيرا!
وها هو عمنا ورائد مجلات الحوادث وصحف الجريمة في بلاط صاحبة الجلالة في الخمسينيات من القرن العشرين يجلس أمامي مكتئبا وهو يتحسر بصوت عال علي أيام زمان وجرائم الزمن الجميل..
اقاطعه: وهو فيه في الزمن الجميل برضه جرائم؟
قال: نعم.. ولكنها جرائم غاية في التواضع وقزم الحجم.. لا ترقي أبدا لجرائم هذا الزمان.. التي فاقت جرائم وحوش الغابة..
يا عزيزي هو يقول: ما اسمعه في عليائي عجيب وغريب ومؤلم أشد الألم ويندي له الجبين!
أسأله: ازاي يا رائد مجلات الجريمة في بر مصر كله؟
قال: الجرائم علي أيامنا كانت تتردد بين الأخذ بالثأر + القتل من أجل المال + السطو المسلح + القتل «سكيتي» بالسم من أجل الميراث + القتل من أجل الشرف وهو أكثر الجرائم شيوعا خصوصا في الصعيد.
أحاول أن انعش ذاكرته بحادث الأم التي تركت عشيقها يقتل ابنها في السبعينيات لأنه شاهدهما في وضع شائن!
قال: لقد افردت لها 4 صفحات في مجلتي من دفتر البوليس أيامها.
قلت له: والابن الذي قتل أمه في عزبة الملجأ في ضواحي شبين الكوم من أجل ذهبها لكي يتزوج من أحب وعشق!
قال: لقد كتبت عنها في حينها وطلبت أيامها من كاهن الكنيسة ان يلعنه في صلاة الأحد..
قلت له: اتعرف أن هذا الحادث المروع وقع في المنزل المقابل لمنزلنا زمان في عزبة الملجأ وهو أحد أحياء شبين الكوم الراقية والذي كان يسكنه أيامها مدير المديرية يعني المحافظ دلوقتي حتة واحدة!
وسمعنا أنا وأخي توسلات الأم لابنها لكي يتركها تعيش وهو تقول متضرعة: دا أنا أمك يا إبراهيم!
وصحنا أنا وأخي صلاح ليلتها بأعلي صوتنا: سيب أمك يا إبراهيم!
ولكنه ربما لم يسمعنا ولم يتركها وخنقها وهرب بالذهب.. ولكن البوليس اليقظ أيامها توصل إليه.. وتم إعدامه!
بيرتي بدار: انت سمعت واقعة القتل باذنيك وأنا شاهدت لحظات إعدامه علي يد عشماوي ونشرت حكايته في مجلتي يومها.
..........
..........
قلت لعمنا بيرتي بدار: ماذا تقول في هذه الأم التي تركت صغيرها في سريره وأغلقت باب الشقة وذهبت في رحلة مزاج مع صديقها إلي الإسكندرية.. وعادت بعد يومين.. لتجد طفلها ميتا في سريره جوعا وعطشا وخوفا ورعبا!
قال: تستحق الشنق هي وعشيقها معا!
قلت: طيب وهذا الأب الذي القي بطفليه في النيل لأنه لا يستطيع الإنفاق عليهما؟
قال: كان أحري به أن يسلمهما لأحد ملاجيء الأيتام ويقول إنه عثر عليهما في الطريق أو يسلمهما لأقرب قسم شرطة ويقول في محضر السجل نفس العبارة!
قلت له: أمسك أنفاسك وتمالك نفسك يا عزيزي.. فلسوف أقرأ لك آخر تقرير عن أحوال الجريمة في بر مصر كله.. أنت تعلم أننا الآن نقترب من الـ100 مليون إنسان.
يقاطعني علي أيامي عندما كنت اصدر جريدتي «من دفتر البوليس».. كنا لا نزيد علي ثلاثين مليونا!
....................
....................
ينظر إلي عمنا بيرتي بدار نظرة عتاب وهو يقول: أتعرف يا عزيزي ـ وآسف للمقاطعة ـ أن الذي آلمني أشد الألم هو هذا الانحدار الأخلاقي الرهيب الذي أصاب المجتمع المصري الذي كان طول عمره يقف فوق جسر صلب من الأخلاق الحميدة والأدب الجم والتمسك بآداب الدين.. وكنا كلنا أزهرا وكنيسة ورجال دين مسلمين ومسيحيين نلتزام بأهداب الدين ومباديء الخلق الكريم.. انظر الآن يا سيدي كيف تحول الناس عن سدرة الأخلاق وانساقوا وراء الشيطان انحرافا وخروجا علي مباديء الدين وتعاليم الأزهر والكنيسة.. البنات انفلت عيارهن والنساء يمشين في الشوارع كاسيات عاريات.. والآباء خرجوا ولم يعودوا.. والأمهات تركن لبناتهن الحبل علي الغارب.. قال إيه.. عشان البنت تلاقي عريس.. بدل ما تقع في قرابيزنا عانس كده لا ضل حيطة ولا ضل راجل!
أين الأب الحمش.. أين الابن الجدع.. أين الأم اللي تصون.. أين الأب الذي يحمي عرضه من ذئاب الشوارع وكلاب السكك؟
كلهم تبخروا في الهواء وأصبحت الرذيلة واللعب علي المكشوف والخداع والسرقة والكذب عمال علي بطال هي الورقة الرابحة في أيامنا هذه.. واللا إيه؟
أصفق لعمنا برتي بدار وأشد علي يده بحرارة وأنا أقول له: عفارم يا عم بيرتى!
قال: وقبل ما أنسي وحياتك تقولهم في أفلام الأيام دي ومسلسلات التليفزيون يخفوا شوية علينا في حكاوي الهلس والعري والخيانات وشغل اللالي والبطل اللي اسمه «زعبولة» فتوة الحتة اللي بيتاجر في المخدرات عيني عينك.. هو ده المثل والقدوة اللي بنقدمه لأولادنا وبناتنا.. دي حاجة تسد النفس وتقصر العمر!
قلت: شوف يا سيدي أحوال الجريمة وكما نشرت الزميلة «الوطن» تقريرا للأمن العام في نحو 24 ساعة فقط: ألف كيلو حشيش تم ضبطها قبل توزيعها علي الزبائن + 63 ألف قرص مخدر ترامادول علي ماكسون فورت علي بلاوي زرقاء متنوعة + 6500 لعبة نارية خطرة + 2 تشكيل عصابي ارتكبا حوادث سرقة + 21 قضية تموينية + 21 ألف حكم قضائي متنوع تم تنفيذه.. ذلك كله خلال 24 ساعة فقط!
...........
...........
قال بيرتي بدار عبارة واحدة ثم اختفي من أمامي: دي حصيلة سنين بحالها علي أيامي.. يا سنة سوخة يا أولاد!
وفص ملح وداب !{