لم أكن أبداً أتمنى أن تصل هيلارى كلينتون إلى سدة الحُكم الأمريكى، نتيجة ما فعلته، أو ساهمت بفعله فى مصر والمنطقة من فوضى وتوترات وقلاقل، تحت عنوان «الربيع أو الخريف»، امتداداً لسابقتها، كونداليزا رايس، تحت شعار «الفوضى الخلَّاقة»، وسبقتهما مادلين أولبرايت، باسم «النفط مقابل الغذاء»، إلا أن عدم نجاح «كلينتون» فى الانتخابات معناه بالضرورة أن يكون الآخر، دونالد ترامب، رئيساً، نحن إذن أمام المعنى الحقيقى للخيارين المُرّ كلاهما، وهى عملية صعبة علينا كمراقبين من الخارج، فما بالنا بالناخبين، الذين رأوا فى مرشحتهم من الفساد ما يفوق بلطجة أو همجية المرشح الآخر؟.
الغريب هو ما نراه من ردود أفعال المطبلاتية والمبرراتية، وكأن المؤامرة الكونية على الشأن المصرى، التى كانوا يسعون للترويج لها، قد زالت بمجرد الإعلان عن فوز دونالد ترامب، التهليل والتكبير والضجيج، بدءاً من برامج توك شو الليل وآخره، حتى اللجان الإلكترونية بمواقع التواصل، ترحيب منقطع النظير بفوز الرجل، على اعتبار أن الست هانم المنافِسة كانت ضمن التنظيم الدولى لجماعة الإخوان مثلاً، وبالتالى فقد أكرمنا الله برئيس أمريكى، ينتمى لجهاز أمن الدولة السابق، وبذلك فالهدف واحد، كما العقيدة مشتركة، كما استراتيجية العمل سوف تنطلق من لاظوغلى.
المشكلة التى لا أجد لها مخرجاً هى أن ترامب كان قد تعهد فى حالة نجاحه ووصوله إلى البيت الأبيض بألا يسمح بدخول المسلمين الولايات المتحدة، لذا فإن السؤال: هل سيكون التفاهم معه طوال الوقت هاتفياً، من خلال الـ«آى فون» المحمول، أو حتى الأرضى، دون الحاجة إلى السفر لبلاد العم سام؟!. الأمر الآخر هو أن الرجل يرى فى المسلمين طوال الوقت إرهابيين لا يجب التعامل معهم، فكيف سنثبت له أننا غير ذلك، أو أننا من طائفة أخرى، هل بمزيد من الاعتقالات ومزيد من إنشاء السجون، أم أن هناك مستندات ووثائق غير معلومة؟!.
على أى حال، لأول مرة فى التاريخ الأمريكى، سوف نكون أمام رئيس لن يحدثنا عن حقوق الإنسان، ولا حتى الحيوان، الرجل لا يعتقد فى ذلك، هو لن يستخدم مصطلح الديمقراطية أبداً، هو أصلاً لم يستخدمه خلال حملته الانتخابية، حتى خلال لقائه بالرئيس المصرى فى نيويورك تحدث فقط عن الكيمياء التى جمعته بالرئيس، أو التى شعر بها حينما التقاه، إلا أنه لم يتطرق أبداً إلى الديمقراطية، أو حقوق الإنسان، على عكس الحديث الذى كان محور لقاء منافِسته بالرئيس، حينما التقته فى نفس التوقيت.
كان آخر ما أتوقعه أن أرى فرحة عارمة، تسود أى قطاع فى مصر، لنجاح ذلك الرجل، الذى أعلن صراحة أنه سوف يفرض إتاوة على دول الخليج العربية، حتى يمكن أن تعيش فى سلام، فيما سماه هو «مقابل الحماية»، وهو هنا يتجاهل أن بلاده قد حصلت على ما هو أكثر من مجرد إتاوة بكثير مادياً وعينياً، على مدى نحو سبعة عقود مضت.. ذلك الرجل الذى أعلن ندمه على مساهمة بلاده فى تحرير الكويت من الغزو العراقى، قائلاً: كان يجب أن نعقد معهم صفقة نحصل بمقتضاها على نصف إنتاجهم من النفط مدى الحياة، أو على الأقل لمدة 50 عاماً، وهو هنا يتجاهل أيضاً أن هدف بلاده لم يكن أبداً تحرير الكويت، إنما كان تدمير العراق، وقد حدث بالفعل.. ذلك الرجل الذى أعلن منذ اللحظة الأولى انحيازه لإسرائيل، بل العقيدة اليهودية، فى عنصرية واضحة وقميئة، مما جعل وزير المالية الإسرائيلى يعلن فور إعلان نجاحه: وداعاً للدولة الفلسطينية.
كنت أتوقع مصرياً نفس ذلك التوجس الخليجى، أو العربى والإسلامى عموماً، من ذلك الذى حدث من تلك الشخصية الهمجية، ذلك أننا بحكم الأمر الواقع فى سلة واحدة، فى النهاية شعب واحد، ومصير مشترك، ومن الغباء أن تتصور هذه العاصمة أو تلك أنها يمكن أن تكون بمنأى عن أى طوفان يصيب العاصمة الأخرى، وإلا لما كان هذا هو حال المنطقة بصفة عامة، كنت أتصور لقاءات قمة فورية بين العواصم العربية، للتشاور حول كيفية التعامل مع المستقبل، أو مع الأسوأ، فى ظل ذلك التطور الغريب الذى لم يكن يتوقعه حتى الأمريكيون أنفسهم، وآمل أن تكون زيارة ولى عهد أبوظبى للقاهرة، أمس الأول، قد جاءت فى هذا الاتجاه، خاصة أن الضيف الإماراتى غادر مصر إلى المملكة السعودية، فى إطار مساعى المصالحة بين القاهرة والرياض.
الكيمياء وحدها أيها السادة ليست أبداً مقياساً للحكم على الصلاحية أو الجودة، كما لم يكن أبداً التفوق فيها كافياً لإعلان نجاح هذا الطالب أو ذاك، بمعزل عن الفيزياء والأحياء، فما بالنا باللغة العربية والدين؟!. لذا فإن العقل والمنطق يُحتمان علينا إعادة تقييم الموقف من جديد، فى ضوء فهم جيد لكل العوامل والمواد المحيطة، دون انغلاق على مادة واحدة، حتى لا نكتشف مع «التيرم» الأول أننا كنا نعيش وهماً كبيراً، لا يصلح فى تداركه أى اجتهاد من أى نوع، مهما امتد سهر الليالى.
يجب إدراك أن المؤامرة الكونية على مصر تبدأ من لحظة الانسلاخ عن المحيط العربى، والإسلامى، والأفريقى، والآسيوى، تبدأ من لحظة تراجع التبادل التجارى مع هؤلاء وأولئك، تبدأ من لحظة الاستغناء عن العمالة المصرية هنا أو هناك، تبدأ من لحظة فقدان الهوية والموروث الثقافى، وإلا فنحن نهدم كل بناء السنين، كل ما شيدته الأجيال السابقة، فى العصور الحديثة والسحيقة على السواء، المؤامرة الكونية هى غباء حمَلة المباخر، واستمرار ترويجهم لذلك الوهم الذى يمكن أن نخسر معه الكثير.
على أى حال، أثق أننا مازال لدينا من الحكمة ما يجعلنا نُحيل الأمور إلى أهلها من الدبلوماسيين، وخبراء السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والتاريخ، والجغرافيا، ذلك أن الأمر لا يتعلق بشأن خاص، أو حتى شأن داخلى، من تلك التى تحتمل فتاوى خبراء فضائيات المرحلة، ومخترعى الأجهزة الوهمية، نحن نتحدث عن مستقبل وطن، فى مرحلة من أكثر المراحل تعقيداً، ليس ذلك فقط، بل مستقبل منطقة بأسرها، وربما كان اختراع قصة الكيمياء بمثابة البداية، أو أول الخيط، لتنفيذ ذلك الذى يدور بخلد ذلك الترامب، والذى لم يعد سراً، بل كان يجب أن نعتبره وقتها المؤامرة الكونية الحقيقية.