لم يكن موضوع فوز دونالد ترامب بحد ذاته يشكل قيمة استثنائية لمصر أو أن يسبب لها حرجا كبيرا ، ولكن ردود الأفعال المصرية الرسمية والموالية في الإعلام الرسمي للدولة هي التي وضعت مصر وصورتها في وضع حرج للغاية ، بعد الاحتفال المبالغ فيه بفوز ترامب ، والإعلان المتكرر عن أنه يحترم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بل ويعتبره ـ عند البعض ـ مثله الأعلى ، وأن مصر تتفاءل كثيرا بمستقبل العلاقات بين البلدين في ظل حكم ترامب ، إذ أن كل هذه الاحتفالات والتفاؤل بالرجل والإكبار لفوزه تمثل خصما أخلاقيا من صورة مصر الدولة والسلطة أمام العالم كله ، لأن صورة ترامب أمام العالم الآن صورة المتطرف العنصري المعادي للأقليات والملونين والمسلمين والمرأة ، فعندما يكون هذا هو النموذج الذي تراه مثلك الأعلى أو حليفك الوثيق أو معقد آمالك ، فأنت تضع نفسك تلقائيا في صورة النظام المتطرف والمحتقر للأقليات ، ولعل هذه هي الخسارة الأولى التي لحقت بمصر من احتفالها بفوز ترامب . الخطاب السياسي لترامب لمنطقة الشرق الأوسط مخيف للغاية ، حتى للأمريكيين أنفسهم ، لأنه شديد التطرف في انحيازه للفكرة الصهيونية و"إسرائيل" وخطبه في هذا الموضوع شائعة وأكثر من أن تحصى ، كما أن أحد أهم أركان برنامجه هو الاعتراف بالقدس الشريف عاصمة للدولة اليهودية ، وهو موقف شديد الخطورة ، وهو يرفض إدانة "إسرائيل" بأي صورة من الصور ، حتى وهي تقتل وتسحق مواطنة أمريكية تحت الجرافات ، ولغة التهديد التي يكررها ضد الشعب الفلسطيني بكامله ووصمه بالإرهاب وأنه سيوقف ما أسماه هذه الكراهية الفلسطينية متكررة أيضا ، فأن يكون هذا "الصهيوني" المتطرف هو حليفك الذي تراهن عليه وتعقد عليه آمالك وترى توثيق العلاقة معه هي الأهم لنظامك فكأنك تقول للجميع ، عربا وعجما ، أنك قررت أن تكون جزءا من الحلف الصهيوني ، ويستحيل أن تقدم نفسك بعد ذلك كوسيط في القضية الفلسطينية ، وهذه خسارة كبيرة لمصر ومكانتها وحتى لقيمتها الديبلوماسية في العالم ، لأن تسعين في المائة من قيمتها مرتهن بقدرتها على التواصل مع الفلسطينيين وحل الإشكالات الطارئة ، ودع عنك المهانة التي تكون فيها مصر ـ بتاريخها وهويتها وحضارتها ـ في تلك الوضعية . الصدام مقبل لا محالة بين ترامب وإدارته من جانب ودول الخليج العربي من جانب آخر ، وهناك ما يشبه "الطوارئ" الديبلوماسية في الخليج الآن لإعادة ترتيب أوراق العلاقة مع ترامب الذي يتوعد الخليج علنا بجعلهم يدفعون "ثمن" ما يعتبره الحماية الأمريكية للمنطقة ، وجزء كبير من مشروع ترامب يقوم على أن يأخذ من "ثراء الخليج" ليعطي المواطن الأمريكي ، وخطابه حاقد وسوداوي على ما يعتبره ثراء خليجيا ، قد لا تكون الممارسة العملية بتلك الفجاجة ، لكن السياسات العامة له ستكون في هذا الإطار ، والأمر لا يتعلق بالسعودية وحدها ، بل بالجميع ، الإمارات وقطر والكويت أيضا ، وهذا ما سيضع السيسي ونظامه بين شقي رحى ، وعليه أن يختار ، إما حلفاؤه في الخليج الذين يقدمون له ماء الحياة لإنقاذ نظامه من الانهيار الاقتصادي وإما الانحياز لترامب الذي لا يمكنه أن يملأ الفراغ الخليجي في الاقتصاد المصري ، فترامب جاء ليأخذ لا ليعطي ، وهذا يشمل مصر كما يشمل غيرها ، وهذا الأمر سيضع نظام السيسي تحت ضغط كبير وسيسبب له إرباكا إضافيا في علاقاته مع حلفائه في الخليج . ترامب نجح بخطابه الديماجوجي الذي يداعب فيه خيال الطبقات المهمشة والفقيرة في أمريكا بأنه سيعيد "العظمة" لأمريكا ، ويعيدها "سيدة" للعالم كما كانت ، ويعيد الهيبة لمنصب رئيس أمريكا ، معتبرا أن أوباما وهيلاري أهانوها عند "من يسوى ومن لا يسوى"! ، ويقدم نفسه في صورة الزعيم المهاب والقوي والمترع عجرفة ، وهذه النوعية لا تبحث عادة ـ خارج بلادها ـ عن حلفاء وإنما عن خدم وجنود لتنفيذ رؤيتهم ، وحتى يكون هناك علاقة جيدة وثقة لأي حاكم في العالم ، وخاصة العالم الثالث ، معه ، ينبغي أن يوطن نفسه على أن يكون "خادما" وليس زعيما ، وعليه أن يلتزم بتوجيهات "الزعيم" وقراراته وسياساته ، ولا يفكر مرة واحدة في اعتراضها أو العمل عكس إرادته ، ولو فعلها مرة واحدة فسينقلب عليه ويهينه ، والمشكلة أن الحالة في مصر تضخم في شخصية السيسي ، ولا تمل من تقديمه كزعيم عالمي يهابه الجميع ويعملون له ألف حساب ، حتى وصل الأمر إلى ما يشبه الكوميديا مثل الحديث عن أسره لقائد الأسطول الأمريكي في البحر المتوسط ، وعجرفة ترامب ودوره الذي يقدمه للأمريكيين لن تسمح لأن يتعامل معه أحدهم في العالم الثالث كند ، وستقع إهانات متكررة ، إما أن تبتلعها وإما أن ترفضها ويكون الصدام وتتحمل تكاليفه . تنظر إدارة السيسي إلى ليبيا باعتبارها الفناء الخلفي ومستودع المدد النفطي شبه المجاني في المستقبل القريب ، وهو يحاول إنضاج الأمور هناك على مهل ، بدعم الجنرال خليفة حفتر وتشكيل حكومة موالية ، غير أن المفاجأة أن ترامب في جزء أساس من مشروعه يعتبر ليبيا فضاءه الذي لا يقبل فيه شريكا ، ويعتبر أن أمريكا تملك حقا تاريخيا في نصف نفط ليبيا على الأقل ، وقال ذلك صراحة ، وترامب الذي يتحرق شوقا لإثبات جدية وعوده للأمريكيين بطفرة اقتصادية واستعادة القوة والمكانة ، لن يسمح للسيسي ولا لغيره أن يلاعبه في ليبيا أو أن يشاركه في "تورتة" النفط هناك ، إلا بقدر ما يقدم من "خدمات" صغيرة ويتم منحه "أجر" العمل في حدود ضيقة ، وهذه ضربة موجعة لترتيبات مصرية يجري إنضاجها خلال السنوات الماضية ، وستجبر إدارة السيسي على إعادة تقييم الأمور كلها من جديد .