في نهايات مفاهيم القبيلة والعشيرة والعائلة كموارد أساسية لنظم الحكم ومع بداية طبقة سكان المدن (البرجوازية) جاء مفهوم الفرد الذي جمع ثروته من التجارة والصناعة بعيدا عن العائلة والقبيلة، هذا الفرد أو المواطن في سعيه للحصول علي حقه في السلطة مثلما حصل علي نصيبه في الثروة بدأت مفاهيم الديمقراطية، التي تساوي بين الأفراد في مساحة جغرافية يستوطنون فيها ويطلق عليها الدولة وبدأت حقوق هذا المواطن في التزايد وشملت كافة الحقوق الأساسية التي ضمنتها المواثيق الدولية ومواثيق حقوق الإنسان من خلال العديد من المنظمات التابعة للأمم المتحدة بالإضافة إلي منظمات حقوق الإنسان، التي ترعاها دولة بعينها أو مجموعة من الدول أو الجماعات الحقوقية والاتحادات النقابية في مختلف دول العالم.
إن جوهر مفهوم المواطنة يقوم علي إلغاء التمييز بين أفراد المجتمع سواء الدينية أو الاقتصادية أو الاجتماعية (الدين والجنس والعرق) وهو الأمر الذي ساندته كثيرا الكتب السماوية والديانات المختلفة في حق الإنسان في الحياة حرا كريما معبرا عن رأيه وذلك نظرا لأن هذه الدول الوطنية بحدودها التي أقرتها الاتفاقات الثنائية بين الدول أو أقرتها اتفاقيات دولية للأقطاب الكبري في العالم، التي سعت إلي تقسيمه وأشهرها اتفاق »سيكس- بيكو» التي ما تزال آثارها في المنطقة العربية فاعلة علي الأرض لأن هذه الدول بحدودها الحديثة شديدة الصرامة جمعت بين جنباتها العديد من الأعراق والأجناس والأديان وأصبح من المتعارف عليه في دول العالم قاطبة أنه لا يجوز أن تقوم دولة علي أساس عرقي أو ديني دون أن تتيح لجميع مواطنيها كافة حرية العقيدة والتعبير عن الرأي والاختلاف، فقد أصبحت هذه الحقوق الإنسانية ملازمة للإنسان الفرد (المواطن) في أي زمان ومكان، وتقوم المنظمات الحقوقية بمعاقبة أي نظام يخترق الحقوق الأساسية لمواطنيه وقليلة هي الدول التي حافظت علي حدودها التاريخية وقوامها المجتمعي بعد اتفاقيات تقسيم الحدود التي استحدثت دولا وأنشأتها من العدم، ومصر وهي التي تعتبر أقدم دولة مركزية في التاريخ الإنساني من الدول القليلة التي حافظت لها القوي الكبري المتصارعة في الحرب العالمية الثانية- وكذلك عمقها التاريخي- علي حدودها التاريخية وحافظت لها سماحتها المجتمعية والإنسانية علي تنوعها الديني والعرقي علي امتداد التاريخ؛ فليس غريبا أن تحتفظ لهجتها العامية العظيمة والحية بمفردات تعود إلي الهيروغليفية ومفردات من لغتها القبطية وتعد عاميتها مخزنا استراتيجيا للحي والمتجدد من لغتها العربية وتصبح اللغة النوبية مصدر قوة وشفرة عسكرية في حرب أكتوبر المجيدة.
فالمصريون في رحلتهم التاريخية الممتدة تفاعلوا مع أديان وخلقوا لغات بقي منها ما بقي وذهب منها ما ذهب ولكن يبقي المصريون، فالنوبي الذي يعيش في جنوبها أو في شمالها هو ذلك المواطن الذي يتساوي مع الصعيدي أو البحراوي أو حماتها من أهل القناة أو بدوها في الفيوم ومطروح وسيناء يتساوي من يعيش في أرض الذهب جنوبا (حلايب وشلاتين وأبو رماد) مع من يعيش في أرض الفيروز في شمالها الشرقي حتي قيل إن المصريين يصنعون أديانهم علي شاكلتهم وهم الراغبون في البقاء والوجود، تتعد الألوان وتتعدد بصمات الوجوه وجميعهم سواء كان وجها فرعونيا أو قبطيا أو عربيا هي وجوه مصرية ندركها عندما نسافر إلي الخارج فيتعرف عليهم الأوروبي أو الأمريكي بأنهم جميعا مصريون وفقط.
لا يعرف المصري خارج أرضه إلا بكونه مصريا، وهو التنوع الذي حفظ لمصر قوتها ووجودها متماسكة أمام أنواء الزمن ومؤامرات العصور المختلفة والقوي الباطشة في العالم، هذا التنوع الذي يجعل من مفهوم المواطنة ضرورة أساسية لإحقاق العدل بين أفراد المجتمع وإتاحة الفرص المتساوية للجميع فلا فضل لمصري علي مصري ولا لأبيض علي أسود ولا لمسيحي علي مسلم أو يهودي في هذا البلد إلا بإخلاصه لها وكلما زادت الحقوق التي تتاح لشبابنا والتي تقر مبدأ المساواة أمام وظائف الدولة المختلفة من أدناها إلي أعلاها حتي وظيفة رئيس الجمهورية زاد إيمان شبابها بعدالتها فليس علي أي نظام إلا أن يوفر الفرص المتساوية للجميع لكي يتنافسوا بنزاهة وشرف ودون محسوبية أو وساطة أو توريث للحصول علي هذه الوظيفة أو هذا المنصب.
إن المصريين وبعد أن حكمهم ابن موظف البريد الذي التحق بالكلية الحربية ودرس فيها »عبد الناصر» ومن بعده حكمهم ابن فلاحي المنوفية بدهائه النادر »السادات» ثاروا علي ثالثهم الذي مال في آخر عهده إلي فكرة التوريث ويحلمون مع ابن حي الجمالية في قاهرة المعز بالعدل والإنصاف وحقوق المواطنة، فهامش العدالة الكبير في الكلية الحربية علي سبيل المثال هو نموذج فريد لتطبيق مبدأ المواطنة.