لا أحد يستطيع ضبط شعب من الشعوب على ساعة يده، وكل من يتوهم ذلك يعوزه المنطق والتفكير السليم. الشعوب تتحرك فى كل المواقف بكامل إرادتها. هذا الدرس يحتاج الكثير من الساسة إلى استيعابه. تجربة الانتخابات الأمريكية الأخيرة واحدة من التجارب التى تؤكد هذه الحقيقة، فقد تحرك الشعب الأمريكى عكس عقارب ساعة الإعلام ومراكز استطلاعات الرأى ومفاصل الدولة الأمريكية التى كانت تدعم هيلارى كلينتون كل الدعم. وكانت النتيجة اختيار «ترامب» رئيساً ووصوله إلى البيت الأبيض عكس كل التوقعات.
ولماذا نبحث فى تجارب الغير ولدينا تجربتنا؟. الشعب المصرى طيلة تاريخه يتحرك بإرادته، ويضرب بكل التوقعات عرض الحائط، مؤكداً فى كل الأحوال أن القرار قراره. قبل ثورة 1919 كانت التقارير الصادرة من القاهرة بمعرفة المسئولين البريطانيين تؤكد أن المصريين هادئون هدوء النيل، ولا توجد أى مؤشرات على اتجاههم نحو الثورة على الاحتلال، ولم تمض سوى أيام حتى اندلعت ثورة عارمة فى البلاد، بعد القبض على سعد زغلول ورفاقه. لم يكن الشعب وقتها يعمل بمزاج الاحتلال ولا يضبط حركته على ساعة «بيج بن»، بل بما يراه ويقرره هو. وقبل ثورة يوليو 1952، كانت ثمة مؤشرات عدة على ضجر الشعب من الملك فاروق، وساسة هذا العهد، حدث الاعتداء على جنود الشرطة البواسل بالإسماعيلية، ووقع حريق القاهرة، وأخذت الأحداث تتراكم، وتوقع كثيرون هبَّة شعبية تتشابه مع ثورة 1919، لكن رياح التغيير جاءت من اتجاه آخر، حين قام الضباط الأحرار بحركتهم (يوليو 1952).
نجحت حركة الضباط فى تخليص مصر من النظام الملكى ثم من الاحتلال الإنجليزى، واكتسبت زخماً ثورياً بعد القرارات والسياسات التى انتهجها الرئيس جمال عبدالناصر لصالح الطبقات الفقيرة. كانت شعبية الرئيس جمال عبدالناصر فى أوجها خلال فترة الستينات، لكن حدثاً مفاجئاً وقع وقتها حير المنظرين لتجربة هذا الشعب. فقد مات النحاس باشا زعيم حزب الوفد الذى تم حله بعد 1952، وهو واحد من أكبر رموز ما كان يطلق عليه رجال يوليو «العهد البائد» فإذا بجنازة «النحاس» تهز القاهرة هزاً، ويشارك فيها الآلاف هاتفين لزعيم الأمة!. وهو مشهد تاريخى معروف وحدث فى عز شعبية الرئيس جمال عبدالناصر. مشهد عكسى شهدته حقبة الستينات أيضاً عندما خرج الشعب عن بكرة أبيه فى مظاهرات 9 و10 يونيو رافضاً تنحى الرئيس جمال عبدالناصر. كان رد الفعل غير متوقع بالمرة من شعب أحس بمرارة الهزيمة كأشد ما يكون الإحساس، لكنه تمسك بعبدالناصر وطلب منه الاستمرار فى موقعه حتى يعيد بناء القوات المسلحة. وفى المقابل من ذلك خرج المصريون فى احتجاجات عارمة (يناير 1977) ضد الرئيس السادات بعد 3 سنوات من قيادته لنصر أكتوبر العظيم وأجبروه على التراجع عن القرارات التى اتخذتها الحكومة برفع الأسعار، فى وقت لم يتوقع فيه أحد أن ينتفض الشعب بهذه الصورة ضد الزعيم المنتصر. فى كل الأحوال أثبت المصريون أنهم غير مضبوطين على ساعة يد أحد، وأنهم يتحركون وقتما يقررون، ويصمتون حين يريدون.. وليس شرطاً أن يكون لتحركهم سبب كبير.. وليس شرطاً أن يعبر صمتهم عن رضا..!.