على عكس ما يشاع من أن مجتمعاتنا الشرقية تعيش حالة من التخلف مع الأمور الغيبية، والعرافين، وقراءة الأثر، والكف، والفنجان، والمندل، والودع، والأحجبة، والسحر، والكتابة على السمك فى الماء، والطير فى الهواء، وعفركوش، وبهلول، وجاميكا، والحاجة نوسة، بخلاف المهتمين بعلوم الفلك، وما أكثرهم الآن، إلا أنه ثبت على أرض الواقع أننا أقل اهتماماً بكثير بتلك العلوم، أو التخاريف، أو سمها ما شئت، من الغرب والأمريكيين على السواء، لسبب وحيد، وهو أن ذلك الأمر المتعلق بالبحث فى الغيبيات منهى عنه فى ديننا الحنيف، على اعتبار أن المنجمين يكذبون حتى لو صدقوا، حسبما جاء فى الحديث الشريف.
على مدى نحو ٤٦٠ عاماً، وتحديداً منذ عام ١٥٥٥، كان الاهتمام العالمى بنبوءات نوستراداموس هو الأكثر انتشاراً حتى فيما يتعلق بمنطقتنا العربية، أو الشرق أوسطية، إلى أن ظهر من بعده الكثير من أمثاله، حتى أصبحنا نعلم أن كل المخابرات فى العالم تقريباً، وفى مقدمتها المخابرات الأمريكية، تعتمد على هذا النوع من البشر، فى التواصل مع الأحداث، أو فى معرفة الكثير منها، إضافة إلى أن كثيرا من القادة والمشاهير العالميين أصبحوا يعتمدون فى تحركاتهم، وقبل اتخاذ القرارات المصيرية على نصيحة هذا الفلكى، أو ذلك العرّاف، أو تلك السيدة مكشوفة الحجاب، حسب التعبير الدارج.
رأينا النبوءات باغتيال الأخوين كينيدى، نبوءات اغتيال الرئيس الرحل أنور السادات، نبوءات الحرب فى العراق وتدميره، نبوءات إنشاء دولة إسرائيل، نبوءات حرب هيرمجدون المنتظرة بالأراضى الفلسطينية التى بارك الله حولها، نبوءات الحاكم الأسود للولايات المتحدة الأمريكية، إلى أن كانت تلك النبوءة الخطيرة التى يبحث حولها الأمريكيون الآن بشغف منقطع النظير، وهى أن هذا الحاكم الأسود هو الرئيس الأخير للولايات المتحدة، ومن بعده سوف تتجه الأوضاع إلى الانهيار والتقسيم، ومن ثم ظهرت نبوءات أخرى، بعضها يؤكد إزاحة ذلك الرئيس الجديد دونالد ترامب، والبعض الآخر يتحدث عن اغتياله.
بمجرد الإعلان عن فوز ترامب فى الانتخابات، وسقوط منافسته هيلارى كلينتون، اتجه الملايين من الأمريكيين إلى محرك البحث «جوجل» لاستكشاف أفضل طرق الهجرة والسفر، كرد فعل سريع على تلك النتيجة التى لم تكن متوقعة، إلا أن الأمر أخذ الآن منحى آخر، أكثر دراما، حتى بين الغربيين عموماً، وهو البحث فى تلك التكهنات التى تتحدث عن الإطاحة به، أو حتى مقتله، وكان أبرزها تلك العرافة البلغارية الضريرة التى تتوقع أياما حالكة السواد للولايات المتحدة، فى المستقبل القريب، وهى السيدة التى قيل إنها تنبأت فى السابق برئاسة باراك أوباما، الحاكم الأسود.
كل هذا التقدم العلمى والتكنولوجى والفضائى، الذى ذهبت إليه الولايات المتحدة والغرب، وأنفقوا فى سبيله الكثير والكثير من الجهد والمال، لم يكن أبداً رادعاً لهذا النوع من الثقافة التى تتطابق مع معتقدات ننتقدها طوال الوقت فى بعض العزب والنجوع لدينا، ذلك أن نبى الله سليمان، على الرغم من أن الله- سبحانه وتعالى- سخر له الجن، (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ) وأيضاً الشياطين (وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ)، إلا أن كل هؤلاء من جن وشياطين لم يعلموا، ولم يستطيعوا أن يعلموا بموعد موت سليمان، ولا علموا حتى أنه مات، ولا مكان موته، إلا بعد أن دلتهم دابة الأرض على ذلك (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) أى تأكل عصاه التى كان يتكئ عليها، وكان لله- سبحانه وتعالى- حكمته فى ذلك بالتأكيد، ولنا أن نتوقف أمام قوله- سبحانه-: (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِى الْعَذَابِ الْمُهِينِ) صدق الله العظيم.
بالتأكيد هى ثقافة نشاز، وربما كانت شاذة، تلك التى تعتمد فى حياتها على الغيبيات التى هى شأن من شؤون خالق الكون، إلا أنها النفس البشرية التى تسعى إلى استباق الأحداث، ولو أنها كانت مفيدة للإنسان بأى شكل من الأشكال ما كانت محرمة شرعاً، ذلك أنه بحكم المنطق، لا يمكن تسيير الكون من خلال مجموعة من أولئك الذين يمكن أن يقرروا مصير البشر، إن حرباً، وإن سلماً، دون الاستناد إلى قواعد علمية، أو دراسات من أى نوع، اللهم إلا ما يعتبرونه دراسة الطالع والنازل، وما إلى ذلك من اجتهادات، أثبتت الأيام فشل معظمها على الأقل.
السؤال الذى وجدته يحوم بالذاكرة طوال الوقت هو: ماذا لو كان ذلك الاهتمام بالغيبيات طابعا شرقيا أو إسلاميا بحتا؟ ماذا لو كان المواطن العربى هو الذى يسعى إلى هذا النوع من العلوم، دون غيره من المجتمعات الأخرى المتقدمة علمياً؟
أعتقد أن هذا الأمر وحده كان كافياً لغزو عسكرى لبلادنا، لن يجد حتى من يقاومه من أصحاب العقول الرشيدة، إلا أنه مادام اهتماماً أمريكياً وغربياً، فلا يجب أن يلقى حتى مجرد الانتقاد، كمصارعة الثيران تماماً، التى يجب أن ننظر إليها كنوع من أنواع الثقافات أو الحضارات، وليست افتراءً من الإنسان على الحيوان.
على أى حال، إذا كان البعض قد تندر منذ البداية قائلاً: ادعوا لأخيكم ترامب حتى يحالفه الحظ، فإننا أيضاً يجب أن ندعو لإخواننا الأمريكيين جميعاً، فهم الآن فى علم الغيب، أصبحوا أسرى نبوءات عفركوش، التى تراجعت أمامها تحليلات الخبراء السياسيين، والأكاديميين، ورجال الاقتصاد والاجتماع، وغيرهم كثير.