جلال حمام
لماذا نعيش في وادٍ.. غير وادي الرئيس؟!
"إللي يعيش لنفسه، بيخون وطنه".. عبارة أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي مؤخراً، يقصد بها كل مسئول لا يبتغي من وراء سلوكياته صالح مؤسسته، وينصب جهده على مصالحه الذاتية.. وبكل أسف، تجد هذه العبارة لنفسها صدى في كثير من مناحي حياتنا، أربكت انتظامها، وأفسدت عليها مصالحها، وقدمت للصفوف الأولى، أناساً، ما كان لهم أن يحتلوها، لولا أولئك النفر الذين هانت عليهم كل المبادئ، وألقوا بقيم المجتمع على قارعة الطريق، إنتصاراً للذات، حتى ولو ذهب الجميع إلى الجحيم.. ويزداد الأمر خطورة، كلما كان من يعيش لنفسه، صاحب قيادة أو مسئولاً عن كيان.. ساعتها تتبدد المصالح العامة أمام المكاسب الفردية الضيقة.. وكم حولنا من مسئول عاش لنفسه، واصطبغت قراراته بهذه الأنا، فأضر من يقود، وجلب الخراب على ما قاد!
لن أقف عند قضية النائب هيثم الحريري، وعلاقته المالية بشركة سيدي كرير، وما أدت إليه هذه العلاقة من حصوله على راتبه وحوافزه ومكافآته كاملة، فذلك أمر متروك لجهات التحقيق، تثبت مشروعية ما كان من عدمه، ولكنني أنطلق فيها من الخاص إلى العام.. ذلك أننا اتفقنا على أنه لا أجر بلا عمل، ولا عمل دون إنتاج.. مبدأ كان لابد أن يسود على الجميع دون تفرقة، إذا أردنا لهذا البلد إصلاحاً وصلاحاً، لأنه من غير المنطقي أن نطالب الجميع بالعمل والإنتاج، للخروج بمصر من أزمتها الاقتصادية، وبعض رؤوسه آخر من يعمل بهذا المبدأ، أو أنهم لا يعملون بموجبه أبداً.. وكأن ما ينطبق على العامة، لا ينسحب على الخاصة، الذين هم أولى الناس به، ليكونوا القدوة والمثل، حتى أني أرى تجسيداً لحديث الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، في صحيح البخاري، عَنْ أُمَّنا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَاأَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا".
ليس دفاعاً عن هيثم الحريري، فما حدث شأنه، وهو أولى الناس بالدفاع عن نفسه، ولكنه إقرار لمبدأ ضرورة محاسبة الجميع، خاصة أولئك الذين توسطوا في موضوع ندبه إلى شركة أخرى، تتيح له تقاضي مرتبه وحوافزه ومكافآته، دون عمل حقيقي، لانشغاله بجلسات البرلمان، جنباً إلى جنب، مع ما أقره البرلمان لأي عضو من أعضائه، من مرتب وبدلات.. فالذين قبلوا بممارسة الواسطة، وقبلوا أن يمنحوا للنائب استثناءً من قانون لا يسمح بهذا الاستثناء، هم أكثر إفساداً ممن جنى فوائد هذه الواسطة.. لأتساءل: هل لو استدعت مصلحة مواطن، دون أن يكون نائباً أو صاحب حظوة وسلطان، وجود مثل هذا الاستثناء، هل سيقدم أحد على السعي له نحو هذه الميزة.. تلك إذن قسمة ضيزا.
مشكلتنا أننا نسير عكس ما يحقق مصلحة البلاد والعباد.. نعيش في وادٍ غير الذي يقف فيه الرئيس منادياً بضرورة إنكار الذات، والإقبال على هذا البلد، بالانتماء والولاء والعطاء بلا حدود، دون النظر إلى المكاسب الشخصية، التي أجزم أنها سوف تأتي، لا محالة، إذا نحن أخلصنا النية تجاه بلدنا، وأعطيناه من رحيق نفوسنا، حتى يتجاوز أزمته.. يأتي إذا نحن أمسكنا بميزان العدل بين الناس، ليكونوا سواسية، في الحقوق والواجبات، دون تمييز على أساس المنصب أو الجاه والصولجان، لأن غير ذلك أدعى إلى إصابة الناس بالإحباط والقعود عن العمل، إذا ما رأوا أمامهم من يكسب عشرات الألوف دون عمل، وهم لا يجدون ما يكفون به أعباء حياتهم.. إذا ما نادينا فيهم بالصبر والتحمل وربط الحزام، إنتظاراً لساعات الفرج القادم، وغيرهم يرفل في نعيم يصيبه دون جهد أو تعب، بلوائح لم تراع ظروف البلاد والعباد.
ما أعرفه، أن الذي ترشح لحيازة مقعد في البرلمان، إنما ذهب ليؤدي خدمة وطنية، تقوم على التشريع والمراقبة والمحاسبة للغير إذا ما حاد عن قيم العمل أو أهمل في إدارة ما بين يديه من مؤسسات الدولة، وما فرضه البرلمان على نفسه، من مرتبات وبدلات لأعضائه، جاء ليكفي العضو في حياته، دون الحاجة للبحث عن موارد لعيشه وآل بيته، وهي أموال دفعها الشعب من ضرائبه، حتى يكون العضو مستقلاً في إرادته، غير خاضع لضغوط العيش عند أداء مهمته.. لكن أن تنص اللوائح على الجمع بين ما يتقاضاه العضو من برلمانه وبين ما كان يتقاضاه من وظيفته قبل الفوز في البرلمان، بالرغم من عدم أدائه لأي عمل حقيقي في هذه الوظيفة، فهو شيئ لا أسم له ولا صفة، إلا الكيل بمكيال خاص، يولد في نفوس العامة إحساساً بخلل الذمم، يحتاج إلى سرعة العلاج والإصلاح، والسعي إلى تغيير يحقق مبدأ "لا أجر بلا عمل، ولا عمل دون إنتاج حقيقي"، إذا كنا فعلاً نبحث عن مخرجاً، يدفع بهذا البلد خطوات إلى الأمام، وإلا سيكون ما نحن فيه محض عبث يدفع إلى الفوضى.. ولا يستقيم أمر وطن إذا لم ندفع عنه ما يحرض على هذه الفوضى.. فهل نعقل؟!
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.