د. نصر محمد عارف
هل تصلح السياسات الخجولة فى العصر الترامبى؟
يخطئ من يظن أن انتخاب دونالد ترامب كان حدثا سياسياً عابراً، أو مجرد نزوةً ديمقراطية لجماعات عنصرية؛ شعرت بالاهانة العرقية فى سنوات حكم أوباما، أو أنه تعبير عن تآكل واضمحلال للسياسة الأمريكية....الخ. الحقيقة أن انتخاب دونالد ترامب يمثل مرحلة تاريخية جديدة، بدأت على المستوى الأكاديمى بالتحول الكبير الذى شهدته أدبيات النظم السياسية من الاهتمام بالدولة الى الاهتمام بالمجتمع، ومن التركيز على الثقافة السياسية الى التركيز على السوق والحاجات الاقتصادية، وقد رصدتُ هذه التحولات فى كتاب بعنوان : «الاتجاهات المعاصرة فى السياسة المقارنة: التحول من الدولة الى المجتمع ومن الثقافة الى السوق» نشره المركز العلمى للدراسات السياسية فى عمان عام 2006.
ثم أصبح هذا التحول الكبير واقعاً سياسياً معاشاً مع ظهور الأثار السلبية لتوسع أوروبا شرقاً؛ الذى ضم الدول التى كانت ضمن حلف وارسو والكتلة الشيوعية سابقا، وما تبع ذلك من هجرة أوروبية داخلية من دول شرق أوروبا، وهجرات خارجية من دول جنوب المتوسط، أدى كل ذلك الى بداية تفكك الاتحاد الأوروبى مع تصويت المملكة المتحدة على الخروج منه، وبداية تفكك حلف الناتو ومنطقة التجارة الحرة فى أمريكا الشمالية »نافتا« مع انتخاب دونالد ترامب؛ الذى يمثل تدشيناً لمرحلة جديدة فى السياسة الدولية؛ أرادها الملأ الأمريكى الحاكم The Establishment، لتعيد صياغة خريطة سياسية جديدة للعالم تستعيد بها أمريكا دورها ومكانتها بعد أن تعيد بناء اقتصادها وتحقق تماسك، ورفاهية وتقدم مجتمعها.
لقد بدأت ارهاصات العصر الترامبى مع قانون »جاستا« الذى أتاح للمواطن الأمريكى محاكمة دول ذات سيادة أمام المحاكم الأمريكية المحلية، هذا القانون الذى مررته الأغلبية الجمهورية فى الكونجرس مرتين، ملغية فى المرة الثانية بأغلبية الثلثين «الفيتو» الذى استخدمه ضد هذا القانون الرئيس أوباما، هذا القانون يحول الدول الى مجرد أفراد يعيشون على الأرض الأمريكية؛ ملغياً بذلك مفهوم السيادة الذى استقر عليه التعامل الدولى منذ اتفاقية «ويستفاليا» سنة 1648، وفى الوقت نفسه فان قانون «جاستا» ينسف كذلك أسس القانون الدولى التعاهدى الذى استقر فى اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات عام 1969على سمو المعاهدات الدولية أو القانون الدولى على القانون الداخلى أو الوطنى، وقانون «جاستا» يقول العكس، حيث شرعن سمو القانون الوطنى الأمريكى على القانون الدولى وعلى مبدأ السيادة. جاء انتخاب دونالد ترامب رئيسا ليدشن رسميا هذه المرحلة الجديدة بخطاب يتمحور حول مشكلات المواطن الأمريكى العادي؛ الذى عانى ومازال يعانى منذ بداية الأزمات الاقتصادية المتتالية بعد 2001، حيث خسر كثير من المواطنين الأمريكان «الحلم الأمريكي» الذى يعنى عملياً؛ امتلاك بيت، هذا المواطن لم تعد تعنيه الشعارات الكبرى مثل قيادة العالم، أو الديمقراطية الأمريكية، أو نشر ثقافة حقوق الانسان،،.الخ، كل ما يعنيه أن يستقر فى وظيفة تؤمن حياة أسرته، وتحقق له على المدى البعيد «الحلم الأمريكي» وفى سبيل ذلك مستعد لتقديم أى شيء؛ حتى وان كانت كل الشعارات التى عاشت عليها أمريكا منذ الحرب العالمية الثانية.فهم ترامب وحزبه هذه الحقيقة، ويتصرفون بناء عليها، لذلك سيشهد العالم نمطاً جديداً من السياسات لا يعرف الدبلوماسية، ولا بروتوكولات العلاقات العامة، ويتخلى عن «ورقة التوت» ستكون السياسة الدولية بلا قفازات حريرية، وقد بدأ السجال فعلاً بين الاتحاد الأوروبى والقيادة الأمريكية الجديدة. سوف تعيش منطقتنا العربية ولأول مرة فى تاريخها عصر الشفافية والوضوح مع الولايات المتحدة، ستراها دون «مكياج» سترى أمريكا الحقيقية، وليست أمريكا هوليوود، أو مدينة ديزني، سيرى العرب أمريكا كما لم يرونها من قبل، وستختفى نظرية المؤامرة، لانه لا حاجة لوجودها، كل شيء سيكون واضحاً جلياً، بلا حياء أو خجلة. فهل نحن مستعدون لذلك؟، أم أننا مصرون على تزيين وجهة الحبيبة المعشوقة الشقراء، الى الحد الذى يجعلنا نرى أن ترامب هو خطيئة كبرى جاءت بها مؤامرة، أو أنه غلطة مؤقتة سوف ستتخلص منها روح القلب أمريكا سريعاً…! لن تصلح السياسات الخجولة فى العصر الترامبي، لأن الطرف الآخر لن يفهم الا الواضح الصريح منها، سيخلع العالم «برقع الحياء» حين يطلب ترامب من جميع أصدقاء أمريكا من اليابان الى الاتحاد الأوربى أن يدفعوا ثمن الحماية الأمريكية لهم، التى كانت تسمى فى الماضى «اتفاقيات دفاع مشترك» سنكون أمام حالة تستوجب سياسات صريحة واضحة، فهل تستطيع النخب السياسية العربية تطوير سياسات تعبر عن مصالح الدول العربية بصورة صريحة تناسب المرحلة الجديدة؟ وهل تستطيع الدولة المصرية أن تخرج من حالة الحياء والخجل فى التعامل مع جميع القضايا التى تمس الأمن القومى المصري؛ وتقدم رؤى واضحة وجلية؟، ما تحتاجه مصر الآن هو الانتقال من حالة المجاملة والخجل الى الوضوح الشديد، لأن تلك الحالة حققت من الأضرار أكثر مما حققته من المنافع، خلقت حالة من الخطاب المزدوج، الذى حول الأصدقاء الى أعداء محتملين، ولم ينجح فى كسب ود الأعداء وتحويلهم الى أصدقاء محتملين، مصر تحتاج رؤية واضحة قاطعة جلية مبنية على تحقيق مصالحها، وأمنها القومى فى سورية واليمن وليبيا، مصر تحتاج الى موقف واضح وجلي، ولا يقبل المجاملة يتم تنفيذه قولاً وفعلا مع تركيا وقطر والسودان، مصر تحتاج الى أن تقدم للعالم استراتيجيتها لحل القضية الفلسطينية؛ بعيدا عن حالة الغموض الهدَّام التى ترسخت بعد سقوط نظام مبارك، مصر تحتاج الى تحويل شعاراتها تجاه منطقة الخليج وأمنها، الى اتفاقيات واضحة محددة للدفاع المشترك، بعيداً عن الغموض الذى يعطى أعداء مصر فرصة للتشكيك فى النيات. لكى تصل مصر الى هذه الحالة من الوضوح فى الرؤية، والبعد عن الغموض لابد من توسيع دائرة صنع القرار لتستوعب كل المهتمين والمتخصصين، ثم يتم طرح ما يتم التوصل اليه للنقاش العام فى برامج تليفزيونية تحترم عقل المشاهد وانسانيته، وبعدها يمكن الوصول الى حالة اجماع وطنى على ما يتم الاتفاق عليه، حينها سنكون قادرين على التعاطى مع العصر الترامبى بصورة فعالة تحقق مصالحنا القومية.