الوفد
علاء عريبى
مساحة نفسية
عندما كنا ندرس الأيديولوجية والنظريات السياسية فى قسم الفلسفة بكلية الآداب في نهاية السبعينيات، تذكرت جملة نصحني بها والدي رحمة الله عليه، قال: احرص على أن تقيم بينك وبين ما تقرأه مساحة نفسية وعقلية، لماذا؟، لأن هذه المساحة الوهمية أو الذهنية سوف تمنعك من الانحياز عاطفيا للنص الذي تقرأه، كما أنها ستتيح لك فرصة لرؤية النص جيدا من بعيد.
أيامها كنت في المرحلة الابتدائية، وكنت أقرأ لأول مرة في حياتي أحد مؤلفات جورج زيدان وهو واقعة "صفين"، وكان على ما أذكر طبعة دار الهلال أو دار الشعب، وأذكر كذلك أنني أخذت وتألمت من المعلومات التي رواها زيدان عن واقعة صفين، حيث كانت المرة الأولى لى التي أسمع أو أقرأ فيها عن موقعة الجمل، ولكي أستنكر ما نسب للإمام على أو للسيدة عائشة، شككت في نوايا المؤلف وفى ديانته، قلت لوالدي: ده مش مسلم؟.
هنا تعلمت أول درس فى حياتي من والدي أحمد بسيونى عريبى رحمة الله عليه، قال لى: لا تقحم جنسية أو ديانة أو مذهب أو أيديولوجية المؤلف في النص، وعليك أن تقرأ النص وتدون ملاحظاتك بعيدًا عن سيرة المؤلف، كما يجب، وهو الأهم، أن تترك مساحة ذهنية بينك وبين النص، ولا تقحم نفسك فى النص لأنك ستكون جزءا منه ولن ترى جيدا الشخصيات وحركتها ولغتها، وعليك أيضا أن تنتبه للمكان وخصوصيته وبيئته، والفترة الزمنية التى تقع فيها الأحداث.
صحيح الصياغة التي استخدمها والدي آنذاك كانت مختلفة، وكانت تتناسب وطفل في المرحلة الابتدائية، حيث قام بشرح بعض المصطلحات مثل الأيديولوجية، والنص، والعقيدة، والمذهب، والجنس، والعرق، والشخصيات الدرامية، ولغة ولهجة الحوار، والمكان، والزمان الروائي، والعادات والتقاليد.
لم أفهم جيدا آنذاك معظم ما شرحه وقاله، لكنه في النهاية قال، واستمعت، وخرجت بأول قاعدة، وكان علىّ أن أعمل بها وأنا أقرأ أو أسمع أو أشاهد أو أحكى، ويومها انتظرني حتى انتهيت من قراءة موقعة صفين، واستمع لملاحظاتي الساذجة، وأذكر كذلك انه بذل جهدا ووقتا كبيرا لكي يفض فى ذهنى ونفسى التشابك بين المؤلف والنص، والتداخل بين الصحابي والنبى، وبين المقدس والبشرى، بدون أن يهز من صور الصحابي، وبدون أن يحمله صفات النبى أو المعصوم.
هذه الحكاية تذكرتها، وأن أدرس كما سبق وقلت الأيديولوجية والنظريات السياسية فى قسم الفلسفة بكلية الآداب، حيث كنا في سن مراهقة، وكان من السهل تبنينا للأفكار السياسية أو الفلسفية، إذ كانت نصيحة والدي هذه هي المسافة الذهنية أو السياج الذي كان يحول دائما بيني وبين ما أتلقاه أو أقرأه، في الوقت الذي كان يقع فيه العديد من الزملاء في فخ التبعية أو التبني لأفكار الغير.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف