ما يجرى حالياً بين النخبة المصرية من مهاترات، وصلت إلى حد الردح، واستخدام أحط الألفاظ والمصطلحات، إضافة إلى الاتهامات المتبادلة بالعمالة، داخلياً وخارجياً- هو خصم من رصيد كل هؤلاء لدى رجل الشارع، سواء كان قارئاً، أو مشاهداً، أو حتى مجرد متابع للأحداث من بعيد، وقد تمثل، بكثرة تكرارها، خصماً من رصيد الجميع دون استثناء، وهو ما نراه من رد فعل على الطبيعة، حينما يستخدم المواطن تعبيرات مختلفة فى هذا الشأن، مثل كلهم عملاء، أو كلهم مأجورون، أو كلهم ولاد...، إلى آخره.
فى البداية، نود التأكيد على أنه لا يوجد تعريف للنخبة، ولا للمثقف، ربما فى أى مجتمع، إلا أن المنطق قد يحسم هذه القصة الجدلية، بهؤلاء الذين يقدمون خدمات تنويرية، أو ذات فائدة للناس، فى كل المجالات، السياسية والاقتصادية والأدبية والفنية والعلمية، وبمرور الوقت سوف يميز المتلقى بين الغث والسمين، وبالتالى سوف يهرول وراء هذا ويلفظ ذاك، هذه طبيعة الأشياء، لن يستطيع الغث فرض نفسه على المستمع أو المتلقى، كما المطرب والمطربة، أو الفيلم والمسرحية، أو هذا الكاتب أو ذلك الكتاب، على الرغم من تقدم فن صناعة النجوم، إلا أن الغث فى النهاية كالبنيان الهش، سوف يتطاير مع أى تيار هواء.
الحقيقة المؤكدة هى أن ذلك المثقف أو النخبوى، أياً كان، يصبح كتاباً مفتوحاً أمام الجميع، بمجرد دخول هذه الساحة التى تضم الأطياف كافة، أصبح تحت رقابة الرأى العام على مدار الساعة، أصبح مشاعاً للمدح والقدح، عليه إذن تحمل التبعات، قد نرى فى الممارسات الخاصة، حرية شخصية، ليس لأحد التدخل فيها أو التنظير عليها، إلا أن أمر المثقفين ليس كذلك، كما الفنانون تماماً، ذلك أنهم يستمدون نجوميتهم من ذلك الجمهور الذى وثق بهم على كل المستويات، خاصة ما يتعلق منها بالأخلاق، والسيرة الذاتية.
بالتأكيد كان يجب أن يكون أول مقومات ذلك المثقف هو ضرورة احترامه ذاته أولاً، إضافة إلى احترام الآخر، احترام الرأى الآخر، مقارعة الحجة بالحجة، حرية التعبير، كما حرية الفكر، الحوار والجدل بما لا يمس الشرف ولا العقيدة، هى أمور بديهية فى الحوار المجتمعى ككل، فى المنزل بين أفراد الأسرة، كما فى المكاتب بين زملاء العمل، كما بين المتحاورين على المقاهى والأماكن العامة، كما فى الأنشطة الرياضية بين الجماهير، هى ثقافة أى مجتمع، يجب إدراكها جيداً ومبكراً منذ نعومة الأظافر.
ما يجرى الآن مختلف تماماً، الصراخ والعويل، والسب والقذف هو الأصل فى الحوار المجتمعى الذى تقوده تلك النخبة، والأدهى من ذلك أنه الأصل فى حواراتهم مع بعضهم البعض، وهى كارثة فى حد ذاتها، وبصفة خاصة بعد أن أصبحت وسائل الإعلام فى مجملها تعمل تحت إمرة هذا الشخص أو ذاك، بما يحقق مصالحه الشخصية، مادام هو الذى ينفق عليها أو يمولها، ومادام القائم على هذا الجهاز الإعلامى أو ذاك يعمل من خلال جهاز أمنى، أو سيادى، سوف يأتمر فى النهاية أيضاً بإمرته، ومادام بعض الكُتاب أو المذيعين ينتظرون تعليمات من هنا أو هناك، بالانقضاض على هذا الشخص أو ذاك، على سبيل التشهير به، أو عقابه عن موقف ما، سياسى، أو حتى شخصى.
أعتقد أن المهاترات التى تجرى الآن فى الصحف، والفضائيات، وعلى مواقع التواصل الاجتماعى تؤكد أن هناك شيئاً ما خطأ، تؤكد أن أقلية ممن يطلق عليهم مثقفون أو نخبة، أساءوا للجميع، بل استطاعوا استدراج آخرين. الألفاظ المستخدمة تشير إلى خلل فى التربية الأولية، الاتهامات المتبادلة تشير إلى أزمة أخلاقية، الجهر بالسوء يؤكد أننا أمام أزمة دينية، سوف يكون مقبولاً بأى حال الاعتراض على رأى ما، أو إبداء الامتعاض من موقف ما، إلا أنه من غير الجائز بأى حال أيضاً، الخوض فى الأعراض بما لا يليق، أو الخوض فى أمور العقيدة بما لا يجوز، وهو أمر آخر أكثر خطورة، ترى فيه النخبة مشاعاً لكل الموتورين من الملاحدة وغيرهم.
فى غياب مواثيق الشرف الاجتماعية والإعلامية، أيها السادة، يصبح كل شىء مباحاً، وفى ظل خضوع الإعلام لمجموعة من ذوى المصالح، أو مجموعة من المرتزقة، الدخلاء على المهنة، سوف تستمر هذه الحالة تنخر فى المجتمع، وتنال من أفراده، لنكتشف فى النهاية أننا أمام أجيال لا يُرجى برؤها أو شفاؤها، الحالة خرجت عن السيطرة، ضيوف البرامج أصبحوا كذلك، كُتَّاب المقالات ممن لا علاقة لهم بالكتابة أيضاً، هؤلاء وأولئك هبطوا على المنظومة الإعلامية بالبراشوت، أصبحت بالفعل مهنة من لا مهنة له، على الرغم من أنها المنظومة الأساس أو الأصل فى الثقافة، والترويج للنخبة على كل المستويات.
أعتقد، وبما لا يدع مجالاً للشك، أن مصيبتنا حالياً فى نخبتنا بالدرجة الأولى، تشتتت وتشرذمت، وتراجعت وتقوقعت، لحساب مجموعات من المنتفعين، من عشاق السلطة، أو عبيد المال، أو الأمنجية، أو رجال كل العصور، النتيجة النهائية هى ذلك الضياع الحاصل فى المجتمع الآن، على كل المستويات، ومن كل الأعمار.