ناجح ابراهيم
زين العابدين السجاد.. مدرسة نحتاج إليها
خرج زين العابدين بن على بن الحسين يوماً من المسجد فسبّه رجل فحاول البعض الفتك به فقال: دعوه، ثم أقبل عليه قائلاً: «ما ستره الله عنك من عيوبنا أكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟»، فاستحى الرجل، فألقى إليه زين العابدين خميصة كانت عليه (مثل الجبة) وأمر له بألف درهم، فكان الرجل بعد ذلك إذا رآه يقول: «إنك من أولاد الأنبياء».
وكان زين العابدين السجاد إذا نقده أو انتقصه أحد قال «اللهم إن كان صادقاً فاغفر لى، وإن كان كاذباً فاغفر له».
بهذه الأخلاق العظيمة والحلم الجميل والأدب الراقى ساد زين العابدين الدنيا بأسرها، فقد أسرتنى أخلاق هذا الرجل العظيم من آل النبوة، حتى توقفت طويلاً أمام نمط حياة هذا العملاق العظيم الذى يدل على مقدار السمو والنبل الأخلاقى الذى يتميز به ومقدار الحب للناس جميعاً بلا استثناء، لقد شعرت وأنا أتابع تاريخه المرة تلو الأخرى أن هذا الرجل لا يكره أحداً على الإطلاق حتى الذين آذوه رفض أن يدعو عليهم كما رفض أن يدعو على الذين قتلوا أباه الحسين سيد الشهداء فى مجزرة مؤلمة كان هو أحد شهودها، لقد بلغ من درجة السمو مبلغاً ندر أن يبلغه أحد.
إننى أشعر بعمق القرب والوصال بين أخلاق زين العابدين السجاد وأخلاق جده الرسول (صلى الله عليه وسلم) ذلك النبى العظيم الذى ضرب أروع الأمثلة فى العفو والصفح الجميل، كما أشعر بعمق القرب الروحى والأخلاقى بينه وبين سيدنا يوسف (عليه السلام) وهو رمز آخر من رموز الإحسان والفضل.
كان السجاد إذا خرج من بيته دعا ربه قائلاً: «اللهم إنى أتصدق اليوم بعرضى على من استحله».. أى حلم هذا، وأى عفو هذا، وأى رحمة تلك، وهل يمكن أن يصدر هذا العفو الكبير والحب الجارف للناس جميعاً من رجل رأى مذبحة كربلاء الشنيعة، رأى أباه الحسين يُقتل غريباً شريداً لا يجد له مأوى، رأى آل البيت يُقتلون عن آخرهم، ونساؤهم تسجن وتساق كالسبايا لبيت يزيد ليبت ويفصل مع غيره فى أمرهم؟!!
لقد كان زين العابدين وقتها مريضاً لم يحضر معركة ومحنة كربلاء كمقاتل، ولكنه عاشها وخبر مآسيها لحظة بلحظة، كان عمره أثناء المعركة قد تجاوز العشرين عاماً، ولكنه مرض مرضاً شديداً مقعداً قبل المعركة وأثناءها وبعدها، حتى أسر مع النساء ثم أطلق سراحه، ورغم ذلك الكرب الكبير لم يدع على أحد أو يحقد على أحد، ولم يدع على يزيد أو بنى أمية، إنه كان يدعو كل يوم نيابة عن العاصى الذى لم يتب عن معصيته وصاحب النعمة الذى لم يشكرها، والإنسان الذى غفل عن ذكر ربه فإذا هو يذكر الله بدلاً منه، ما هذا الحب للناس الذى ملأ قلب هذا الإنسان الطاهر؟! إنه من فيض حبه لله المحبوب الأعظم الذى إن أحببته أحببت خلقه حتى وإن عصوا الله فيك.
آه يا زين العابدين، إنه من نسل طيب طاهر فأبوه الحسين بن على وأمه سلافة بنت يزدجرد ملك الفرس، وجده على بن أبى طالب وجدته فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وسلم) ورسول الله خاتم الأنبياء جده لأمه، أما جده لأبيه فهو أبوطالب المدافع الأعظم عن الرسول الكريم حتى وإن لم يسلم، إنه سليل الكرم والجود والتضحية والبذل والعفو والنبل.
لقد صدق الفرذرق الشاعر العظيم وهو يقول عنه:
«هذا بن خير عباد الله كلهم
هذا التقى النقى الطاهر العلم
هذا الذى تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحل والحرم».
لقد كان زين العابدين فريداً فى عبادته وكلماته وحِكَمه وكرمه وجوده، فقد سقط إبريق الوضوء من جارية وهى تصب الماء عليه فشج وجهه «أى جرحه بشدة» فقالت له: «وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ»، فقال: كظمت غيظى، فقالت: «وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ»، فقال: عفا الله عنكِ، فقالت: «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ»، فقال: أنت حرة لوجه الله.
ولما مات السجاد وجدوا فى ظهره وأكتافه أثر حمل الجراب إلى بيوت الأرامل والمساكين بالليل.
ودخل السجاد يوماً على محمد بن أسامة بن زيد يعوده فى مرضه فبكى ابن أسامة فقال له: ما يبكيك، قال علىّ دين، قال: كم هو؟، قال: خمسة عشر ألف دينار، قال السجاد: هى علىّ.
وكان السجاد يقول فى مثل هذا المعنى: «إنى لأستحى من الله أن أرى الأخ من إخوانى فأسأل الله له الجنة وأبخل عليه بالدنيا، فإذا كان يوم القيامة قيل له: إذا كانت الجنة بيدك كنت بها أبخل وأبخل».
رحم الله آل البيت أجمعين، ورضى عنهم وجمعنا بهم فى عليين، ورزقنا حسن الاقتداء بهم، وألا نكون ممن يحبهم ولا يقتدى بهم أو يحبهم دون أن يصنع صنيعهم.