المصريون
جمال سلطان
المعارضة المصرية لا تملك مشروعا بديلا
أذكر أني كتبت هنا من قبل أن السبب الأساس لضياع ثورة يناير ، ضمن أسباب أخرى ، هو غياب أي مشروع وطني توافقي بين القوى السياسية المختلفة ، هي مزق مشتتة اجتمعت فقط على شعار "ارحل" الذي رفعوه في وجه مبارك ، فلما رحل لم يتفقوا على شيء بعدها ، لا في الأفكار الدستورية الأساسية التي تقود مصر الجديدة ، ولا في الخطوات التي يتوجب اتخاذها لتصحيح مسار الدولة وأولويات تلك الخطوات ، ولا كيفية إعادة هيكلة وتطهير المؤسسات المهمة مثل الداخلية ، ولا حتى العلاقة مع المؤسسة الوطنية الصلبة ، القوات المسلحة ، ولا على خريطة عقلانية لعلاقات الدولة الخارجية وخاصة في محيطها الإقليمي ، ووسط هذه التصدعات والشقوق كان من السهل على "الدولة العميقة" بأدواتها ومؤسساتها أن تتلاعب بالجميع ، ثم انتهى الأمر إلى ما انتهى إليه ، وضاعت يناير وتبعثرت قواها وما زالوا يتبادلون الملامة والاتهامات عمن كان السبب . لا يوجد أحد في مصر الآن لا يتفق معك في أن الوضع الحالي سيء ، وليس هو الحلم الذي كانت تنتظره مصر ، لن يختلف معك ـ حتى أنصار السيسي ـ على أن هذا الوضع لا يليق بمصر ، وهذا متضمن تلقائيا في العبارة الشهيرة "مش أحسن ما نبقى زي سوريا والعراق" ، أي أن الوضع الحالي هو الدرجة قبل الأخيرة من الانهيار ، أو هو حالة اضطرار كبديل وحيد للانهيار والسقوط ، وأما بقية القوى الوطنية فهي تعارض النظام الحالي ، بدرجات متفاوتة من المعارضة ، لذلك لا ينبغي أن نضيع الوقت كثيرا في إثبات ما هو ثابت ، وإقناع من هو مقتنع ، لأن هذا أشبه بشغل وقت فراغ ، وصناعة إحساس كاذب بالامتلاء السياسي أو القيام بدور ما ، وإنما القضية الأساسية والعملية الآن هي إجابة السؤال : ما هو البديل ؟ . وحتى تقترب الصورة أكثر ، دعونا نضع افتراضا ولو خياليا الآن ، أن يقرر الرئيس عبد الفتاح السيسي الليلة في خطاب إلى الأمة إعلان تخليه عن السلطة ، ما الذي يمكنك تخيله في مصر صبيحة اليوم التالي ، أستطيع أن أقول لك بكل ثقة وبدون أي مبالغات ، أن كل القوى التي مزقت ثياب بعضها البعض بعد إعلان تنحي مبارك ، ستعود لمرحلة جديدة من تمزيق ثياب بعضها والدخول في صراعات إقصائية عنيفة زاد عنفها الآن بمرارات توارثوها من التجربة الماضية ، خاصة في مرحلة مرسي وإطاحته ، وربما عاد الفرقاء لكي يلحظ بعضهم بطرف عينه موقف المجلس العسكري الجديد ليغازله ، ويحاول استمالته والدخول معه في شراكة على حساب الآخرين . مشكلة قوى المعارضة في مصر أنها لا تملك مشروعا سياسيا بديلا ، يقوم على قاعدة إجماعية توافقية تحترم الحد الأدنى من حقوق الجميع السياسية والأيديولوجية والاجتماعية والدينية ، وتمنع تحول الفروق الفكرية والسياسية إلى ساحة للتمزق الوطني والصراعات الإقصائية ، وتقنع الجميع بأن التعايش والشراكة هو الاستراتيجية الوحيدة لإنقاذ الوطن وتصحيح مساره والحاكمة لكل نقاط الخلاف الحالية والمستجدة ، وهذا ما يمكنك بسهولة التأكد من غيابه الآن ، يكفي جولة سريعة على الحوارات والتراشقات والبيانات والأفكار والاتهامات والتخوينات والعنجهيات التي تصدر من مختلف القوى ضد بعضها البعض ، لكي تدرك أن المشروع البديل غائب . والمشروع البديل ليس مجرد توافق فكري وسياسي ، وقاعدة إجماعية تقوم على الشراكة والتعايش من الناحية النظرية وحدها ، وإنما المشروع البديل يحتاج بداهة إلى "أداة بديلة" للتغيير ، جسم سياسي بديل ، وهذه هي الأخرى غير موجودة في مصر الآن ، وأعني بها الكتلة السياسية الموحدة والتي تمثل الوسطية السياسية المقنعة لعموم الناس ، والتي يمكن أن تطرح كبديل يطمئن الناس لجديته وكفاءته وقدرته على إدارة شؤون البلاد ، لا يوجد "وفد النحاس" ـ إن صح التشبيه ـ الذي جمع في عباءته وأجنحته التمايزات الدينية واليسارية والليبرالية ، فكان كتلة سياسية حكيمة ومتماسكة ومستوعبة للخلاف بمهارة ، استعصى على الجميع كسرها ، وكلما حاولوا كسرها عادت بقوة كبديل تثق فيه الأمة ، مصر لا يوجد بها الآن تلك الكتلة الواعية والحكيمة والتي يعمل قادتها بإحساس عال بالمسئولية كرجال دولة وليس مجرد نشطاء سياسيين أو وعاظ سياسيين ، وهذا لا ينفي وجود كوادر ورموز وافرة الاحترام والوطنية والإخلاص ، وبعض الأحزاب التي تحاول الحفاظ على استقلاليتها وكرامتها رغم الحصار ، ولكن تلك الكتلة السياسية المتوحدة على تنوع مكوناتها ، تلك الجبهة الوطنية صاحبة المشروع الوطني الجامع والاستراتيجي وليس المرحلي أو اللحظي ، ليست موجودة الآن ، والجميع يعرف أنها غير موجودة ، لدرجة أن مجرد طرح فكرة مرشح توافقي في انتخابات 2018 تحولت إلى كوميديا سوداء من فرط التهريج وتبادل الاتهامات ، ولذلك يتم الرهان على نشاطات أخرى يدرك الجميع أنها لا يمكن أن تمثل البديل الآن ، سواء بالتحفيز على الاحتجاج أو التظاهر أو تفريغ الطاقات عبر بعض وسائل الإعلام أو صفحات التواصل الاجتماعي ، لقد نجحت مثل تلك الجهود سابقا لأن هناك بديلا من داخل جسد الدولة العميقة أراد ذلك أيضا وشارك فيه ، وليس لمجرد أن الميدان امتلأ بالمتظاهرين ، الحال اليوم مختلف ، لأن البديل لا يمكن أن يكون إلا من خارج الدولة العميقة ، ورغما عنها ، وهذا تحدي مختلف ويقتضي سلوكا سياسيا مختلفا .

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف