لو كنت من هواة المحاكم لأقمت دعوى قضائية مستعجلة على الحكومة، أتهمها بقتل المرضى عمداً مع سبق الإصرار والترصد، وكأنها خطة مدبرة للخلاص من عدة ملايين من البشر، فى إطار الخطط اللوذعية التى تشهدها البلاد على مدى الأعوام القليلة الماضية، والتى لم يكن آخرها تحرير سعر صرف الجنيه، دون البحث فى أثر ذلك على أسعار الدواء وصناعته، أو على المستلزمات الطبية بصفة عامة، مروراً برفع أسعار العلاج بالمستشفيات، من عمليات جراحية، إلى أسعار الإقامة، إلى كل العوامل المساعدة، وانتهاء بموافقة وزير الصحة أخيراً على رفع جلسات الغسيل الكلوى من ١٤٠ إلى ٢٥٠ جنيهاً للجلسة الواحدة، دون الأخذ فى الاعتبار الظروف الاجتماعية، حالكة القتامة، التى يعيشها معظم أبناء الشعب حالياً.
خلال الأسابيع الماضية، تابعنا شكاوى أصحاب مصانع الأدوية من ارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج، التى هى فى معظمها مستوردة، تابعنا صرخات المستوردين الذين لم يستطيعوا تدبير الدولار لاستيراد الدواء، ما تسبب فى نقص ما يزيد على ٣٦٠ صنفاً من الأسواق، تابعنا العديد من مراكز الغسيل الكلوى التى قامت بتعليق لافتات تعتذر للمرضى عن عدم أداء عملها، وتطالبهم بالتوجه إلى مراكز أخرى، نظراً لنقص مستلزمات الغسيل، تابعنا نقص أنسولين مرضى السكر، تابعنا أطباء الجراحة الذين يتحدثون عن تأجيل العمليات الجراحية أو إلغائها لنفس الأسباب.
كل هذا، والدولة الرسمية ودن من طين وأخرى من عجين، حتى إن البرلمان حين قرر مناقشة جزء من المشكلة، من خلال لجنة الصحة هناك، تغيّب السيد وزير الصحة، وكأنهم يبحثون فى أمر ترفيهى، على الرغم من أن مرضى الفشل الكلوى وحدهم يزيد عددهم على ٦٥٠ ألف مريض، معظمهم يغسلون أكثر من مرة أسبوعياً، بما يجعل الأسعار الجديدة حُكماً بالإعدام عليهم وعلى أُسرهم، وعلى هذا يمكن القياس مع كل المرضى الآخرين، خاصة الأمراض المزمنة المختلفة، والذين يزيد عددهم فى مصر على ١٧ مليون نسمة.
ما أردت الإشارة إليه هو أن المادة ١٨ من الدستور تنص على الآتى: (لكل مواطن الحق فى الصحة، وفى الرعاية الصحية المتكاملة، وفقاً لمعايير الجودة، وتكفل الدولة الحفاظ على مرافق الخدمات الصحية العامة، التى تقدم خدماتها للشعب، ودعمها، والعمل على رفع كفاءتها وانتشارها الجغرافى العادل، وتلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومى للصحة، لا تقل عن ٣٪ من الناتج القومى الإجمالى، تتصاعد تدريجياً، حتى تتفق مع المعدلات العالمية)، أما المادة ٢٣٨ فتنص على الآتى: (تضمن الدولة تنفيذ التزامها بتخصيص الحد الأدنى لمعدلات الإنفاق الحكومى على التعليم، والتعليم العالى، والصحة، والبحث العلمى، المقررة فى هذا الدستور، تدريجياً، اعتبارا من تاريخ العمل به).
رفع الدعم عن الدواء بهذا الشكل الواضح، أيها السادة، حتى لو كان دون قرارات معلنة، هو عمل يتنافى مع النصوص الدستورية، وإذا كانت الدولة قد اتجهت إلى احتكار استيراد المستلزمات الطبية من خلال جهة واحدة، لم تف بالتزاماتها حتى الآن، لحاجة فى نفس يعقوب، أجدها تنحصر فى توفير الدولار، لتسجيل بطولات هشة، على حساب المرضى، فنحن أمام كارثة، تتمثل فى عدم الإحساس بالمسؤولية، ليس ذلك فقط، بل بانعدام الضمير الوطنى والإنسانى، وهو الأمر الذى يجعلنى أناشد كل رجال القانون، ممن لهم علاقة بالمحاكم، نقل القضية إلى ساحة القضاء، مادامت السلطة التشريعية لم تفلح فى مساءلة هؤلاء، أو الرقابة عليهم.
ما لا يدركه هؤلاء وأولئك هو أن الصحة العامة هى بداية طريق التنمية والتطور، ذلك أن المجتمع المريض لن يُنتج إلا كل ما هو مريض ومختل، فقد تعلمنا منذ نعومة الأظافر أن «العقل السليم فى الجسم السليم»، ناهيك عن أن العلاج كما الغذاء، حق لكل مواطن، بحكم الدستور، وليس منّة من أحد، وهو ما يوجب على الحكومة أن تعيد النظر فى هذه السياسات، التى من شأنها تحويل المجتمع إلى مجموعات من المرضى، وكأننا نعود إلى الوراء مئات السنين، وقت أن كانت الأوبئة تجتاح العالم.
السؤال الذى يطرح نفسه بقوة هو: ما هى فائدة كل تلك القروض الخارجية، بفوائدها، إذا لم تستهدف بالدرجة الأولى صحة المواطن؟ وما هو الهدف من أى خطط تنموية مستقبلية إذا لم تكن لصحة المواطن الأولوية فيها؟ وما هو الداعى لأى تبرعات من المواطنين إذا لم تأخذ فى الاعتبار تحسين صحتهم ومواجهة تلك الأمراض التى تهدد مستقبلهم؟ وكيف يمكن أن يغمض جفن ذلك الوزير، أو ذلك الرئيس، أو أياً كان المسؤول، وهو يسمع أنين المرضى من كل اتجاه، أطفالاً ونساءً وشيوخاً.
أعتقد أن الأمر يحتاج إلى إعادة نظر من كل الوجوه، خاصة أننا نحتل مركزاً عالمياً متأخراً (٩٧) فى تحقيق متطلبات المواطن الصحية، تتفوق علينا فى هذا المجال، كما غيره من المجالات، مجتمعات ناشئة، لم تكن قد خرجت إلى الوجود، وقت أن كانت القاهرة مركزاً لتدريب دارسين من أوروبا.. يجب أن نوقن بأننا أمام قرارات حكومية بالموت، لن يصمد صانعوها أبداً أمام عدالة القضاء، انتظاراً لعدالة السماء.