جمال سلطان
لماذا لن يعود الفريق شفيق إلى مصر الآن ؟
من أشهر أدبيات النظم السياسية العربية خلال الستين عاما الماضية ، ومنذ ظهرت الانقلابات العسكرية لتأسيس الجمهوريات الحديثة ، ذلك المبدأ الذي لخص به أحد المفكرين الليبيين الموالين للقذافي طريقة عمل "الأخ القائد" : علشان تنور لازم تضلم كل اللي حواليك" ، فلم يكن هناك حاكم عسكري يقبل أن يكون بجواره أي شخصية يمكن أن تمثل "بديلا" في أعين الناس ، وعادة ما يتم تسويق الزعيم باعتبار أنه هو "الأمل الأخير" للدولة ، ويروج إعلامه بأن الدنيا ستنهار من بعده والوطن قد يختفي أو يتعرض لتهديد وجودي بغيابه ، وأن البلاد ستتعرض للخراب ، ودائما عندما كان المعارضون يضجون بتجبره واستبداده وفساد نظامه يواجهون بالسؤال النمطي : وهل هناك بديل ؟ ، وبطبيعة الحال يكون من الصعب الإجابة ، لأن "الزعيم" جفف المحيط من حوله بالكامل ، وكل شخص يظهر منه أي ملامح أو مواصفات قيادية كبديل محتمل ولو بعد قرن من الزمان يتم تدميره ، إما باعتقاله وتحديد إقامته والتنكيل به وبأهله كما فعل عبد الناصر مع اللواء محمد نجيب ، وإما بتدمير سمعته ثم عزله كما فعل مبارك مع المشير أبو غزالة ، الشخصية المثقفة والتي كانت تحظى باحترام كبير في المؤسسة العسكرية والمجتمع المدني معا ، وإما بتصفيته كما حدث في نهاية الحقبة الناصرية وفي حقبة القذافي أيضا ، وإما بتجفيف المنابع منذ البداية كما فعل حافظ الأسد وابنه من بعده في سوريا . في الحالة المصرية الآن هناك مشكلة اسمها "الفريق أحمد شفيق" ، وقد قال الدكتور مصطفى الفقي ، أحد أهم المحللين السياسيين المصريين المدركين لآليات العمل داخل مؤسسة الرئاسة طوال عصر مبارك وحتى بعد إقالته ، قال بوضوح أن مشكلة الفريق أحمد شفيق في مصر سياسية وليست قضائية ، وذلك تعليقا منه على عدم عودته إلى مصر بعد إلغاء القضاء إدراجه على قوائم ترقب الوصول ، الفقي شرح باقتضاب لا يمكن السماح بأكثر منه أن عودة شفيق يمكن أن تحدث استقطابا مجتمعيا في مصر الآن والبلد في غنى عنه ، والألفاظ "الديبلوماسية" للفقي يمكن ترجمتها باللغة السياسية الخشنة والصريحة بأن شفيق يمثل تحديا حقيقيا للسيسي ومنظومة الحكم الحالية في مصر ، وأن قرار عدم عودته لمصر هو قرار سياسي بالدرجة الأولى ، ولكن يبقى السؤال : ولماذا لا يسمح له بالعودة ثم يوضع تحت السيطرة كغيره من السابقين واللاحقين ؟ . شفيق يمثل مجموعة مبارك ، والنخبة المتصلة به ، سياسيا وديبلوماسيا وماليا وإقليميا .. وأخرى ، والبعد الإقليمي تحديدا يمثل عامل القوة الأهم له الآن ، لأنه يحظى بقبول كبير في الإمارات ، الداعم الأساس للنظام المصري حاليا ، والسند الأهم للسيسي في حماية النظام من الانهيار على وقع الأزمات الاقتصادية المتلاحقة ، والمساس بأحمد شفيق خط أحمر إماراتي ، لا يمكن السماح به ، لأن مجموعة مبارك لها وضع استثنائي في الإمارات ، منذ الراحل الكبير الشيخ زايد بن سلطان ، رحمه الله ، وكانت الرؤية الإماراتية لما بعد 3 يوليو وإطاحة مرسي والإخوان أن يعود شفيق ليقود المرحلة ، ولم يخف الشيخ محمد بن راشد رئيس مجلس الوزراء الإماراتي وحاكم دبي رؤيته هنا وقال علانية في شبكة بي بي سي الإخبارية البريطانية أنه لا يتمنى أن يترشح السيسي للرئاسة ، لكن جرت الأمور في اتجاه مغاير ، وبسطت الإمارات حمايتها ورعايتها للفريق شفيق ، ورغم أنها سلمت جميع المصريين المقيمين على أراضيها والمطلوبين للقضاء في مصر إلى القاهرة ، إلا أن وضع شفيق كان مختلفا ، ومن جانبه لم يضغط السيسي لطلب تسليمه أو إعادته ، لأنه يعرف حساسية الأمر بالنسبة للإمارات . شفيق ابن الدولة ومؤسساتها ، وابن القوات المسلحة ، وعندما تنحى مبارك بعد ثورة يناير كانت الدولة مشدودة من جناحين : جناح شفيق واللواء عمر سليمان بمواجهة جناح المشير طنطاوي واللواء عبد الفتاح السيسي ، وقد حسم جناح طنطاوي الأمر سريعا ، ثم عاد جناح شفيق/سليمان ليحاول من جديد في الانتخابات الرئاسية ، فتم إقصاء عمر سليمان بعدم قبول أوراقه ، كما خسر شفيق النزال بصورة اعتبرها هو وفريقه مؤامرة ، وغادر البلاد بعدها بيوم واحد ، وفهم الناس أنه يخاف من الإخوان ، لكن غيبته طالت حتى بعد رحيل الإخوان ، وهو ما يعني أن مشكلته في مصر أبعد وأعقد من الإخوان . خطورة الوضع بالنسبة للفريق شفيق أنه ما زال يمثل "البديل" الأكثر حضورا وفرصة من داخل "الدولة" وليس من خارجها ، ومن أبناء القوات المسلحة ليس من خصومها ، كما أن ما حققه في نزاله الانتخابي أمام مرشح التيار الإسلامي القوي محمد مرسي منحه شرعية سياسية وشعبية لا يمكن تجاهلها ، لأنه اقترب كثيرا من الخمسين في المائة وكان قاب قوسين أو أدنى من الفوز ، وما زال يتمسك بالطعن في أنه الفائز وأن هناك تلاعبا جرى في الانتخابات من جهة ما ، لم يسمها ولن يسميها ، لتمكين مرسي من الفوز وفق ترتيبات ، وتمسك بتحقيقات القضاء في تلك المسألة والتي أوشكت على الانتهاء لصالحه بالفعل ، قبل أن يتم وقفها بصورة مفاجئة وغير مفهومة ، بعد أن جرت اتهامات متبادلة بين قيادات قضائية أحرجت الجميع ، وكلما ازداد الضغط السياسي أو الشعبي أو الاقتصادي على السيسي كلما كان "ظل شفيق" حاضرا وضاغطا على أكثر من جهة وأكثر من "مؤسسة" ، ولذلك ، ورغم أن القضاء رفع اسمه من قوائم ترقب الوصول ، إلا أن شفيق لن يعود لمصر الآن ، ولن يعود ـ إذا كان في العمر بقية ـ إلا إذا كانت صفحة السيسي قد تقرر طيها .