د.محمد مختار جمعه
تنافس الأقران والمعاصرين وغير المتناظرين
التنافس نوعان محمود ومذموم، أما المحمود فهو التنافس في الخيرات والمسابقة فيها، حيث يقول الحق سبحانه : »سَابِقُوا إِلَي مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ»، ويقول نبينا (صلي الله عليه وسلم) : »لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ، رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَي هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا»، أي إن كان من شيء يحسد عليه ويتنافس فيه فهو في هذين الأمرين، أن يكون الرجل أهلا لشكر نعمة المال حق الشكر بإنفاقه آناء الليل وأطراف النهار في سبيل الله، أو أن يكون من أهل الحكمة والعلم يقضي بهما ويعلمهما للناس.
وقد كان الصحابة الكرام (رضوان الله عليهم) يتنافسون في الخيرات غاية التنافس، فقد أَخْرَجَ أبو داودَ، والترمذيُ عن سيدنا عُمَرَ بن الْخَطَّابِ (رضي الله عنه) قال: أَمَرَنَا رَسُولُ الله (صلي الله عليه وسلم) يَوْمًا أَنْ نَتَصَدَّقَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي، فَقُلْتُ : الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ الله (صلي الله عليه وسلم) : (مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ ؟ ) قُلْتُ : مِثْلَهُ، قَالَ : وَأَتَي أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله (صلي الله عليه وسلم) : (مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟) قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قُلْتُ: لَا أَسْبِقُهُ إِلَي شَيْءٍ أَبَدًا»، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلي الله عليه وسلم) : ( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا ) قَالَ أَبُو بَكْرٍ (رضي الله عنه):أَنَا، قَالَ : (فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً ؟ ). قَالَ أَبُو بَكْرٍ (رضي الله عنه): أَنَا، قَالَ:( فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا ؟)، قَالَ أَبُو بَكْرٍ (رضي الله عنه): أَنَا، قَالَ: (فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟ )، قَالَ أَبُو بَكْرٍ (رضي الله عنه): أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلي الله عليه وسلم) : ( مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ ). وأما التنافس المذموم فهو المؤدي إلي التحاسد والتباغض والخلاف والشقاق، المتجاوز الغبطة التي هي تمني مثل ما أصاب الغير من الخير للنفس إلي الحسد الذي هو تمني زوال النعمة عن الآخرين، وهو القائم علي محاولة هدم الآخرين وتحطيمهم وعرقلة مسيرتهم، وقد يتجاوز ذلك إلي الانشغال بهدم الآخرين عن بناء النفس، يقول القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني في مقدمة كتابه » الوساطة بين المتنبي وخصومه » : وأهل النقص رجلان : رجل أتاه التقصيرُ من قبَله، وقعَد به عن الكمال اختيارُه، فهو يساهم الفضلاءَ بطبعه، ويحنو علي الفضل بقدر سهمهِ؛ وآخرُ رأي النقص ممتزجاً بخِلقَته، ومؤثّلاً في تركيب فطرته، فاستشْعر اليأس من زواله، وقصُرتْ به الهمةُ عن انتقاله؛ فلجأ إلي حسَد الأفاضل، واستغاث بانتقاص الأماثل؛ يري أن أبلغَ الأمور في جبر نقيصته، وستْر ما كشفه العجزُ عن عورته اجتذابُهم إلي مُشاركته، ووسمُهم بمثل سِمَتِه. وغالبًا ما يكون التنافس الذي قد يصل عند بعض الناس إلي حد التناحر بين الأقران والمتناظرين، فقد يظن بعضهم أن الأماكن أو المناصب أو المكاسب محصورة بين الشخص ومن ينافسه فإما أنا وإما أنت، متناسين أو متجاهلين ما يخبئه ويضمره القدر في الأعمار وتقلبات الأيام والأحوال والأشخاص، وأن الأمر كله بيد الله وحده، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن ما كان للشخص سيأتيه، ولا يغني حذر عن قدر، وأن الرزق ماديًا أو معنويًا لا يرتبط بالذكاء أو المكيدة أو التدبير، وإلا هلكن إذن من جهلهن البهائم علي حد تعبير الشاعر العباسي أبي تمام.
فعلي العاقل أن يدرك أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه، »واعلم أن الأمة لو اجتمعت علي أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت علي أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام، وجفت الصحف »، ويقول الحق (سبحانه وتعالي) : » قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَي اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ »، ويقول (سبحانه) : » قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ».
وإذا كان التناسب يقتضي أن يكون العنوان تنافس الأقران والمعاصرين والمتناظرين فإني آثرت كسر المألوف إلي التعبير وعن قصد بغير المتناظرين ذلك أن دوائر التحاسد والتباغض ربما اتسعت لدي بعض من اسودت قلوبهم ونفوسهم واتشحت بأشد درجات السواد قتامة، وأعلي درجات الحسد والحقد سما زعافا، فشملت لديهم المتناظرين وغير المتناظرين قافزين علي كل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية التي تدعو إلي حب الخير للناس جميعًا، حيث يقول نبينا (صلي الله عليه وسلم) : »لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّي يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ »، ويقول (صلي الله عليه وسلم) : »مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَي لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ، فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ »، ويقول عليه الصلاة والسلام : » ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ، أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ »، فما أحوجنا إلي هذه الأخلاق الكريمة المنبثقة من الروح الإيمانية الصافية بما يهيئ لحياة آمنة مستقرة لا قلق فيها ولا اضطراب ولا تحاسد ولا بغضاء.