القاضي لايفصح عن رأيه فيما يعرض عليه من نزاع قبل النطق علنا بالحكم فيه. القاضي حريص علي ألا يستشعر المتقاضون اتجاهه أو ما توحي به الاوراق ولنا في توجيه سيدنا عمر بن الخطاب أبا موسي الاشعري. حين كتب اليه: "آس بين الناس في وجهك" بمعني اجعل نظراتك الي أي من الخصمين متساوية اذا ابتسمت لاحدهما فلابد ان تبتسم للآخر بل اذا نظرت الي متقاض لابد ان تنقل نظرك الي خصمه حتي لايشعر اي منهما ان في تصرفك ولو كان بسيطا "قيل" اليه أو إلي خصمه ويطمئن ان قضيته في أيد أمينة.
لعظمة هذه الوصية وما بها من قواعد متقدمة في قانون المرافعات.. عمد المستشار الجليل حافظ السلمي رحمه الله وهو رئيس لمحكمة طنطا الابتدائية في منتصف الثمانينات الي كتابتها في لوحات انيقة وضعت بغرف المداولة وفي مكتب رئيس المحكمة.
ضمير القاضي في دائرة. وقناعته لايطلع عليها أحد قبل المداولة حتي ولو كان زميله في الدائرة.. لايبدي اي من أعضاء الدائرة رأيه فيما يعرض عليهم من قضايا قبل سماع المرافعة وانتهائها. وينفرد الاعضاء والرئيس بغرفة المداولة ليبدي كل منهم رأيه مبتدئين بعضو يسار الدائرة وهو أحدث الاعضاء ثم بعضو يمين الدائرة ثم يبدي رئيسها رأيه وهكذا حتي لايتأثر رأي الأحداث برأي الاقدم او يجد حرجا مهما كان بسيطا في ابداء ما يراه ويقتنع به وهذا المنهج يسير عليه القضاة وتتعلمه الأجيال. لايحيدون عنه وصولا الي تحقيق اسمي آيات العدل بين الناس بعد اجتهاد قدر الطاقة مع احتمال الخطأ بعد هذا الاجتهاد ولذلك كان التقاضي علي درجات لتدارك هذا الاحتمال.
القاضي علي مر التاريخ الاغريقي والاسلامي وفي كل الدنيا علي هذا النمط الذكي الواعي المقدر لظروف عمله ومكانته في المجتمع وائتمان الناس له علي أسرارهم وأمور حياتهم.
يحكي ان أحد القضاة الاغريق كان له امر مطروح علي القضاء فبات ليله وقضي نهاره في قلق بالغ لا يستريح منه لاحظ المحيطون به هذا القلق فتعجبوا وسأله احدهم: كيف تكون قاضيا وتعيش هذا القلق؟ رد عليهم: انا لا أأمن مكر القاضي قاصدا انه لايعرف فيما يفكر القاضي اذا ما قرأ الاوراق واستمع الخصوم وشهودهم اذ ان القاضي هو الوحيد الذي لايعرف الناس اتجاهه وما هي قناعته قبل النطق بالحكم حتي ولو كانت الاوراق تنبئ عن شيء ما ظاهريا.
في القضاء يلجأ القاضي الذي افصحت تصرفاته عن بعض رأيه في الأوراق التي ينظرها الي طلب التنحي عن الاستمرار في نظر الدعوي وتفويض رئاسة المحكمة في احالتها الي دائرة اخري وقد يطلب احالتها لاستشعار الحرج ولايسأل القاضي عن ماهية هذا الحرج او سببه حتي لايحدث بلبلة في نفوس المتقاضين وتضطرب الامور ويزداد القاضي حرجا.
القاضي في تصديه للفصل بين الناس قلب مجرد وفكر محايد لايشوب وجدانه وضميره أية شائبة ولايحمل في اعماقه سوي الرغبة في الوصول الي كلمة الحق ينطق بها معتمدا علي من اسمه الحق والعدل سبحانه وتعالي.