د.محمد مختار جمعه
حديث الجمعة .. اللوائح والقوانين وحتمية المراجعة
إذا كنا نتحدث عن تجديد الخطاب الدينى وتصويبه بما يتوافق مع روح العصر ومستجداته من خلال التأكيد أنه حيث تكون المصلحة فثمة شرع الله عز وجل, وأن الشرائع قائمة على مراعاة مصالح البلاد والعباد, وأن الفتوى قد تتغير بتغير الزمان والمكان وحال المستفتي, وأن ما كان راجحًا فى عصر من العصور قد يصبح مرجوحًا فى عصر آخر إذا تغيرت ملابسات ومقتضيات الفتوى فيه.
وإذا كنا نتحدث دائمًا عن مرونة الشريعة الإسلامية واتساعها وحيويتها, ونبذها لكل ألوان الجمود والتحجر, وحثها على ضرورة إعمال العقل, وعدم الجمود عند ظواهر النصوص, فإن الأمر يكون أكثر إلحاحًا فيما يتصل بإعادة النظر فى بعض القوانين واللوائح والنظم وعدم النظر إليها على أنها قرآن كريم أو نص مقدس لا يجوز المساس به أو الاقتراب منه أو النظر فى تعديله, بل العكس من ذلك كله فإن ما وضعه البشر لأنفسهم فيما ينظم أمور حياتهم بما يناسب طبيعة عصرهم وبيئتهم ومجتمعهم يقتضى إعادة النظر مراجعة وتعديلا وتقويما كلما اقتضت الضرورة أو تغيرت الظروف والملابسات.
وإذا كنا نؤكد أن الأديان، كل الأديان، قد فصَّلت وبيَّنت للناس أمور العقائد والعبادات ووضعت الأسس والقواعد الكلية والعامة لما يضبط معاملاتهم وتركت فى هذا الجانب الأخير المتصل بشئون حياتهم متسعًا كبيرًا للاجتهاد ومراعاة طبيعة العصر ومستجداته, حيث قال النبى صلى الله عليه وسلم فى قصة تأبير النخل:«أنتم أعلم بأمور دنياكم», فإن ذلك يستدعى ومن باب أولى مراجعة مستمرة للوائح والقوانين التى أدت دورها فى وقتها وزمانها وظروفها وملابساتها, وناسبت عصورًا وعقودًا وبيئات ومجتمعات وفلسفات وأيدلوجيات نشأت فى ظروف معينة, وبحيث لا تتغير الظروف والملابسات والأيدلوجيات والفلسفات وسائر المعطيات والمقومات وتبقى القوانين التى قد يكون بعضها عائقًا فى سبيل التقدم والرقي, ولا سيما فى مجالات الاستثمارات والاختراع والابتكار وتنظيم الحقوق والواجبات والعلاقات باقية كما هى كاتمة للأنفاس مانعة لاستنشاق النسيم والهواء الطلق.
وإذا كانت الشرائع السماوية قائمة على تقديم العام على الخاص ومصلحة الدول على مصالح الأفراد والجماعات والقبائل فى توازن بين حقوق المواطن وحقوق الدولة, فإن من الواجب على جميع أبناء الوطن أن يسعوا لما يحقق المصلحة العامة أولا, وإن من الخطأ الفادح القاتل أن تتمحور كل فئة أو طائفة من المجتمع حول ذاتها بغض النظر عن المصلحة العامة للمجتمع.
وإن مجتمعنا ووطننا لفى حاجة ملحة أن نعمل جميعًا له, وأن نراعى طبيعة المرحلة والتحديات التى نمر بها أو تحيط هى بنا, وأن نترفع عن المصالح الفئوية والخاصة التى تأتى على حساب الوطن أو المصلحة العامة, وأن نؤْثر بحق وصدق المصلحة العامة على الخاصة, لأن إعلاء المصلحة الخاصة على العامة وشيوع هذه النزعة وتضخيم هذا الشعور قد يغرق السفينة كلها, وساعتها لا منجاة لأحد, حيث يقول الحق سبحانه وتعالى: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» (الأنفال: 25), ويقول نبينا صلى الله عليه وسلم: « مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا فَكَانَ الَّذِينَ فِى أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا : لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِى نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا «.
وعليه فإن الأمر لا يقف ولا ينبغى أن يقف عند حدود القوانين العامة ولا حتى الخاصة, وإنما يتجاوز ذلك كله إلى ما هو أبعد وأخطر وهو بعض اللوائح الداخلية التى يحتاج بعضها إلى مراجعة سريعة لا تحتمل التأخير أو التأجيل فى عالم متسارع شديد التسارع, وعلى أن يتم ذلك بتجرد شديد وشفافية كاملة.