(١) فى المقال الفائت رأينا كيف عارض المستشار المأمون الهضيبى باستماتة ترشح المستشار عبدالسلام حامد لمنصب المدعى العام الاشتراكى.. كان ذلك بمجلس الشعب المصرى صبيحة يوم ٢٩/١١/١٩٨٧.. وقد اختتم «الهضيبى» معارضته بقوله: «نحن والحمد لله أعرضنا عن كل من آذانا، ولكن أن يلى أحد منصباً له مثل هذه الخطورة ونسكت.. هذا إثم كبير.. هذه حياة لا نغتفرها لأنفسنا، ولا نستطيع أبداً أن نخرس ولا نقول كلمة الحق.. إن مصر لم تجدب.. إن مصر لها رجالها الذين يمكن أن يقلَّدوا أكبر المناصب بأمانة وصدق، بعيداً عن جميع الشبهات.. أرجو منك يا سيادة الرئيس.. وأرجو من حضرات النواب المحترمين أن يقدروا أمر هذا الموقف الخطير».. فى كتابه (الإخوان فى البرلمان، ١٩٩٢)، يقول محمد الطويل معلقاً على الموقف الذى جرى بين «الهضيبى» والدكتور رفعت المحجوب: «إن النظام الحاكم سعى ووافق على خوض التجربة البرلمانية للإخوان، إلا أنه تحسباً فى السيطرة على آثار التجربة، وحذراً من أبعادها وخشية من تطورها، فإن النظام الحاكم رأى أن يكون مستعداً لهذه الاحتمالات.. فإذا كان هناك اللواء زكى بدر، وزير الداخلية، يقوم بدوره إزاء تلك التجربة، فإنه لا مانع من دور آخر لجهة أو مسئول آخر.. فما يفلت من وزير الداخلية، يمكن التعامل معه من خلال المدعى العام الاشتراكى، والعكس صحيح.. واختيار هذا الأخير بدقة وعناية، حيث يكون لذلك دلالة.. ومن هنا كان اختيار المرشح الجديد، الرمز القديم فى مواجهة الإخوان، يعود فى ثوب جديد إذا اقتضى الأمر للمواجهة.. ومن هنا كان الاختيار طبقاً لمفهوم السلطة صحيحاً.. وطبقاً لمفهوم الإخوان غير صحيح.. ويدل على أنه ما زال النظام الحاكم يخفى خلف ظهره عصا أخرى، غير عصا زكى بدر المعلنة والسافرة.. ومن هنا أيضاً هو رمز رادع للإخوان قبل غيرهم، وقد شعر الإخوان بذلك.. فاستنفرهم هذا المفهوم.. وعارضوا بشدة ذلك الترشيح».. والحقيقة أنه فات الكاتب «الطويل» أن المستشار «الهضيبى» رجل قانون، يدرك معنى الأحكام القضائية وضرورة الالتزام بها.. ومن هنا كان دفاعه المستميت.. ذلك لأن مشروعية أى نظام حكم ترتكز فى المقام الأول على احترام الدستور والقانون وتنفيذ أحكام القضاء.. وقد أراد «الهضيبى» أن ينبه ويؤكد لرئيس المجلس والأعضاء والرأى العام ما يمكن أن يتعرض له نظام الحكم فى مصر من اهتزاز لشرعيته حال ترشيحه وتعيينه للمستشار عبدالسلام حامد فى منصب المدعى العام الاشتراكى.. هذا ما كان يستهدفه «الهضيبى»، بعيداً عن التأكيد على إظهار هوية الإخوان.. صحيح أن المرشح كان رمزاً لماضٍ يسعى الإخوان لإبعاده عن مخيلتهم وعدم العودة إليه أو عودته إليهم (كما ذكر الكاتب) وهذا من حقهم، بل من واجبهم تجاه أنفسهم ومجتمعهم ووطنهم.. فالمجتمع الذى تستباح فيه حرمات الإنسان ويعتدى فيه على حقوقه، لا يمكن أن ينهض أو يتقدم أو يرقى..
(٢) قام السيد كمال الشاذلى، أمين التنظيم بالحزب الوطنى ورئيس الهيئة البرلمانية، ليرد على المستشار «الهضيبى» فقال: «بالنسبة لما ذكره السيد المستشار مأمون الهضيبى والخاص بقضية كمشيش.. التقرير الخاص باللجنة الخماسية للمجلس الأعلى للهيئات القضائية، (موجهاً حديثه «للهضيبى») صحيح كما ذكرت أنه قد حدث اتهام فعلاً.. ولكن ليس لهذا المستشار وحده، بل لعدد من المستشارين.. كانوا أربعة هم: المستشار صلاح نصار (النائب العام فيما بعد)، والمستشار جمعة والمستشار عبدالسلام حامد (المرشح)، والمستشار سليمان عبدالمجيد (لاحظ أيها القارئ الكريم الورطة التى وضع كمال الشاذلى نفسه فيها، فهو لم يكتف بالمستشار المرشح للمنصب، وإنما ضم إليه ثلاثة آخرين!)».. ثم استأنف حديثه فقال: «لقد قدمت ضدهم شكاوى مؤداها أن بعض المتهمين فى بعض القضايا ادعوا بوقوع تعذيب عليهم.. وهذه الحقيقة لا يعلمها إلا الله سبحانه تعالى (ملحوظة: فكيف حكم القضاء بإدانتهم؟!).. والأمر لا يخرج عن أنه ادعاء من أناس ضد هؤلاء المستشارين الأربعة.. فماذا انتهى إليه الرأى؟ نحن لا نأخذ الناس بالشبهات، ولكن نأخذهم من خلال تحقيق وإثبات وإدانة.. وهذا هو القضاء الذى كان الزميل المستشار أحد أعضائه.. وبحكم هذا المنطق، فإن اللجنة الخماسية للمجلس الأعلى للهيئات القضائية قررت حفظ التحقيق مع هؤلاء المستشارين الأربعة.. وهذا ليس لعدم كفاية الأدلة، ولكن لعدم صحة ما نُسب إليهم فى تحقيقات التعذيب.. بمعنى أن التحقيق تم معهم بمعرفة النيابة.. واللجنة الخماسية المسئولة عن مساءلة السادة المستشارين الأربعة طبقاً لقانون السلطة القضائية قد حفظت التحقيق، بعد أن حققت واستمعت وسألت العديد من شهود (لاحظ كلمة شهود غير معرفة بالألف واللام، وهو ما يعنى ليس كل الشهود)، بجانب من أدلوا بأقوالهم ضد هؤلاء المستشارين».. توقف «الشاذلى» قليلاً ثم قال: «أيها الأخوة.. هذه هى مراحل الدعوى المتعلقة بقضية كمشيش، التى أشار إليها السيد الزميل.. وهذه التحقيقات قام بها مكتب قضايا التعذيب.. ولقد تقدم السيد النائب العام أيضاً بمذكرة حول هذا الموضوع انتهى فيها إلى الآتى: أن الدليل الذى ساقته هذه التحقيقات قبَل المستشارين الأربعة، لحقه الوهن بما يعدم دلالته وفقده وحجيته على صحة ما حمله من اتهام لهم، مما يستتبع بالضرورة التقرير بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية لعدم الصحة»..
لم يترك المستشار «الهضيبى» هذا الكلام يمر دون أن يعلق عليه، فسارع بالرد قائلاً: «إن هذا القرار هو قرار صادر من النيابة وليس إقراراً من المحكمة.. وهناك حقيقة ثابتة هى أن حكم محكمة جنايات كمشيش قد أهدر الاعترافات، وليست التى أدلى بها أمام التحقيقات الأولية، ولكن التحقيقات التى أجراها السيد المستشار المرشح للمنصب.. وهذا الحكم قائم وقال بأن هذه التحقيقات باطلة، وأن هذه الاعترافات قد أخذت كرهاً وبطريقة التعذيب، وهذا حكم لا يلغيه تقرير للنائب العام بصدد قضية أخرى».. وأضاف قائلاً: «والنائب العام هو الذى يقول بعدم الصحة، ولكن اللجنة الخماسية لم تقل بعدم الصحة».. حينذاك صاح «الشاذلى» مقاطعاً: «من الاثنين.. اللجنة الخماسية والنائب العام».. فاستطرد «الهضيبى» يقول: «مرة أخرى كان من الأفضل ألا أدين شخصاً بجريمة إلا بوجود أدلة.. وهذا حق.. وأنا لا أطالب أحداً بأن يؤخذ أحد بالشبهات فى جريمة، ولكن من يلى منصباً يجب أن يكون بعيداً عن الشبهات».. (وللحديث بقية إن شاء الله).
لم يترك المستشار «الهضيبى» هذا الكلام يمر دون أن يعلق عليه، فسارع بالرد قائلاً: «إن هذا القرار هو قرار صادر من النيابة وليس إقراراً من المحكمة.. وهناك حقيقة ثابتة هى أن حكم محكمة جنايات كمشيش قد أهدر الاعترافات، وليست التى أدلى بها أمام التحقيقات الأولية، ولكن التحقيقات التى أجراها السيد المستشار المرشح للمنصب