باقة زهور مخملية بلون الحزن الساكن فى ركن من قلبه منذ فراقه وحتى آخر العمر.. وضعها على قبر ذلك العجوز الحكيم.. ربما هى الذكرى العاشرة.. أو أكثر قليلاً.. لا يهم، فما أسرع الأيام.. كم أفتقدك يا جدى.. أفتقد حضنك الكبير ويدك العفية.. أتشوق لصوت ضحكتك الصافية تكشف ما نجى من أسنانك عندما كنت تقفشنى أرتدى نظارتك السميكة وطاقيتك المعطرة دائماً برائحة المسك التى أحضرتها من حجتك الأخيرة.. أشتاق لذلك الأمان العجيب الذى كنت أشعر به وأنا أختفى خلف ظهرك للاحتماء من ضربات أمى الطائشة عندما أتلف شيئاً بالمنزل أو عصا أبى عندما كنت أعبث بأوراقه وكتبه.. فأين ظهرك الآن يا جدى لأحتمى به من قسوة الأيام.. وغدر الصديق قبل الغريب.. انسابت دموع.. نقاومها كثيراً.. يردعها كبرياء جريح.. وتوئدها اعتبارات اجتماعية طالما وضعناها بأيدينا لتخنق فينا أجمل ما فينا.. تأمل وحشة المكان حوله ليتذكر كيف كان يعج بالحزانى والباكين.. ثم مضى كل منهم لحياته، بعد أن ألقى قناع الحزن على طريق الخروج من المقابر.. واستبدله بقناع آخر من تلك الأقنعة الكثيرة التى احترفناها كل يوم.. أدرك أنه كلما ضاقت به الدنيا لا يجد ملاذاً سوى هنا.. حيث تنعدم طرقات أبواب المصلحة.. ونقف على أعتاب الدنيا متطلعين لذلك المجهول الذى أخذ الأحباب فتتضاءل المصائب، وتهدأ الرغبات.. وتتهذب النفوس فى حضرة كلمات الله الحائمة دائماً فى المكان.
وها هى محنته الأخيرة.. تكاد تعصف بحياته كلها.. وقد ضاقت به الأرض على رحبها.. وكأن ليس بها مكان يحترم مشاعره سوى تلك الشجرة الصغيرة على قبر جده.. تنتظر قدومه بصبر لتظلل على أحزانه.. أغمض عينين أرهقهما نوم لعوب كما الحياة لا يفى بالمواعيد.. شعر بالسكينة تتسلل إلى أعماقه.. لتحل ضيفة عزيزة على القلب تلك الذكريات البعيدة.. تتداعى محملة برسالة عبر الزمان.. أول مرة رأى فيها البحر الكبير.. وكيف كان مبهوراً مرتعداً، ، فامتدت يد الجد العفية تشجعه على اقتحام المجهول.. تشبث بجده فى خوف فإذا به يقذفه فى هذا الغامض الرهيب.. ليعافر الصغير قليلاً ثم يشعر بأنه يغرق.. وقبل لحظة الاستسلام.. كانت يد جده تحيطه من حيث لا يدرى... وهكذا شهدت شهور الصيف مولد سباح ماهر.. أصبح شكله كأحد أبناء الجنوب وقد منحته شمس الصيف شهادتها بكل كرم..
وفى أحد الأيام وبينما كان الجد يداعب حفيده كعادته ويروى له حكايات لا تنتهى أدرك بعدها كيف استطاعت أن تعلمه الكثير وتكون صوراً حية فى عقله ترشده لما يجب أن يفعل.. نظر الجد طويلاً لحفيده ثم قال لقد حان موعد الدرس.. سنتسابق حتى تلك الصخرة فى نهاية الخليج هناك.. وقبل أن يستعد الصغير صاح الجد هيا وقفز إلى الماء دون انتظار.. فاندفع السباح الصغير يشق الأمواج بذراعيه الصغيرين.. مراهناً على (حنية) جده الذى سيتهاون قليلاً ليمنحه فرصة للفوز.. ولكن للمفاجأة لم يفعل ذلك ومضى بسرعة عجز عن منافستها الشبل الغرير.. ففقد حماسه لاستكمال السباق وتباطأ أكثر وأكثر.. فإذا بجده ينهره بملامح متجهمة ويحثه على السباحة بسرعة فالتيارات فى ذلك الخليج قوية ويمكنها أن تصبح قاتلة.. وبأنفاس متقطعة وصل إلى الصخرة أخيراً ولكن متأخراً جداً.. فصاح بغضب..
- هذا ليس عدلاً يا جدى فذراعاك أكبر من ذراعىّ وقدماك أكبر من قدمىّ وجسمك أقوى من جسمى.. وأنت تعرف كل شىء وأنا لا أعرف الكثير.. فكيف يكون ذلك سباقاً عادلاً..
فابتسم الشيخ الحكيم ابتسامة تحمل مرار السنين وعركة خبراتها ليربت على ظهر حفيده:
- ومن قال إن الحياة عادلة.. ولكن يجب أن نخوضها ونكافح فيها لآخر لحظة.. فهنالك دائماً من هو أكثر قوة وغلبة فهل نستسلم؟.. أمواج البحر كالحياة تمضى دائماً ولن تتوقف حداداً على أحد.. إنه قطار لا يأبه كثيراً بالواقفين على الأرصفة مهدرى فرصة اللحاق واعلم أن هناك دائماً جانباً خفياً من الحياة هو منحة من الله.. يحتار فيها أصحاب الحيل شرط الأخذ بالأسباب.. هذا هو الدرس.. والفوز الحقيقى..
فتح عينيه فجأة وتيقظت كل حواسه على صوت يعرفه جيداً؛ إنه صديقه ومعلمه الأول جده..
- امسح دموعك يا بنى وتذكر.. أمواج البحر لن تتوقف عن رحلتها الأبدية رثاءً لأحد..
لمعت عيناه.. وقد وصلته الرسالة.. نفض ما علق به من يأس وإحباط.. نظر إلى قبر جده مودعاً فى امتنان.. ومضى وهو يعلم ماذا عليه أن يفعل..