نصف الدنيا
نوال مصطفى
موطن العشاق
اللقاء الأول بينك وبين مدينة تراها للمرة الأولى كاللقاء بإنسان لا تعرفه. تتحرك موجات إحساسك، تتفاعل مع الأماكن والبشر، فتشعر إما بألفة وانسجام، أو ببرودة واغتراب.

هذا ما يحدث لى – دائمًا – فى تجوالى في أرض الله الواسعة، وهذا ما وضعني فيه القدر عندما اخترت مهنة الصحافة ، ومارست العشق للأدب. فقد تعددت سفراتي إما في مهمات صحفية أو مؤتمرات دولية أو لإجراء حوارات لشخصيات أثرت في العالم وأهمها حواري مع رئيسة الوزراء الباكستانية الراحلة «بنظير بوتو» في إسلام آباد عام 2000، وكانت وقتها تحكم بلادها كأول سيدة مسلمة تتولي هذا المنصب في دولة يدين 99 % من سكانها بالإسلام ،وهي باكستان .

سافرت كثيرًا .. من الشرق إلى الغرب .. ومن الشمال إلى الجنوب . شاهدت كثيرًا .. السفر يمنحك ثقافة ، ومعلومات ،وخبرات بلا حدود . والأهم من ذلك أنه يجعلك ترى الدنيا من خلال زاوية أكبر ، أشمل وتستوعب البشر باختلافاتهم وتشابهاتهم وتناقضاتهم وتكتسب قدرة هائلة على تقبل الناس كما هم ..لا كما ينبغى أن يكونوا !

أعود إلى نقطة البداية ..العلاقة بينى وبين الأماكن ، وبالتحديد المدن التى أضع فيها رحالى ..وأختار واحدة من المدن التى وقعت فى غرامها من أول نظرة ..أقصد أول زيارة ، إنها : روما.. عاصمة إيطاليا.

روما.. الملهمة.. موطن العشاق ، والفنانين والحالمين. مدينه تستقبلك بالفن وتطل عليك بهالة مهيبة معتقة برائحة التاريخ ..تفتح ذراعيها مرحبة بزائريها من كل بلاد العالم.

الميادين الفسيحة والساحات الجميلة مسارح مفتوحة يقدم فيها الهواة عروضهم الشائقة المثيرة . رسامون ينزوي كل منهم في ركن ، يفترش ألوانه وفرشاته وأوراقه، ومقعد خشبي صغير يجلس عليه ، وحامل رسم يضعه أمامه، أو اسكتش صغير يسنده على رجله ، وفي يده قلم فحم . يجلس الزائر لميدان «نافونا» الذي يطلق عليه الإيطاليون اسم : بياتسادى نافونا .. أمام الرسام ، عشر دقائق فقط ، وبعدها يمد الرسام ورقة «الكانسون» ، لتجد «بورتريه» شديد الدقة ، بالغ الجمال والروعة له!

والرسامون في « بياتسادي نافونا» أنواع ، منهم من يرسم البورتريه الطبيعي ، ومنهم من يرسم البورتريه الكاريكاتورى . تخصصات .. وإبداع وروعة .. شىء مذهل !

فى روما .. تلك المدينة العريقة يعز على السائحين النوم ، هكذا رأيتهم في زياراتي الأولى لها في يوليو 2010 . يجلسون فى ساحة «نافونا» الشهيرة أمام التماثيل الضخمة الأربعة التى تتوسطها . تلك التي نحتها المثال العالمي «برنينى » .

يمثل كل تمثال أهم أنهار العالم ويتصدر نهر النيل « آلهة النيل» تلك التماثيل الأربعة ، وخلفيته نخلة أصيلة ، ويسبح في مياه النافورة تمساح النيل .

يتوسط تلك التماثيل الأربعة مسلة مصرية فرعونية ، هي واحدة من ثلاث عشرة مسلة مصرية تتوسط أشهر ميادين روما، وهى علامة على تجذر الروابط التاريخية والثقافية بين مصر وإيطاليا .

أما «بياتسا ديل بوبولو» أو ميدان الشعب ، فهو مكان رائع يتجمع فيه الناس حول التماثيل الرومانية والنوافير والمباني والكنائس العريقة التي تميز روما.

في روما التاريخ معجون بالحياة ، فليست هناك أماكن للمزارات التاريخية ، ومناطق أخري سكنية ، بل هناك خلطة سحرية بينهما ، فالتاريخ حاضر فى كل مكان .. كل ركن .. كل ميدان .. وهو جزء من الحياة اليومية العادية . متحف مفتوح .. والله .. وأكثر ..

«بياتسا ديل أسبانيا « من أكثر الأماكن الخلابة هناك .. عبارة عن سلالم طويلة ، مرتفعة يجلس عليها الشباب والكبار والصغار بالساعات . منظر مبهر ، فالسلالم تتحول إلى ما يشبه المدرجات فى « الإستاد « . يلتقى عندها الشباب يغنون .. يرقصون .. يتسامرون .. يحبون . وأمام تلك السلالم نافورة شهيرة اسمها : «باركاتشيا» . أى المركب القديم . يتنقل مرتادو المكان بين السلالم والنافورة ويستلهمون سحر المكان الرومانسى الحالم .. البديع . الساعات تمضى دون أن تشعر بها .. والزمن يتوقف فى خشوع أمام شموخ الحلم واللحظة .

«فونتانا دى تريفي « .. نافورة الأحلام والأمنيات . هناك تعطي ظهرك للنافورة ، وتمسك العملة الفضية بقبضة يدك اليمنى لتلقي بها إلى النافورة من فوق كتفك الشمال . هكذا يفعل زوار « فونتانا دي تريفي « . يغمضون عيونهم . ويتمنون .. ثم يلقون بأحلامهم . وأمنياتهم إلى النافورة الرومانية الشهيرة .. نافورة الحب .. والحالمين ..!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف