في تلك اللحظات الساحرة التي تعقب صلاة الفجر تتبدي معجزة كبري من معجزات الخالق العظيم جل شأنه.. تنسحب خيوط الليل رويداً رويداً لتهبط علي الكون خيوط النهار.. تملأ الدنيا ضياء ونوراً.. لحظات خلق وميلاد ليوم جديد.. نسمات طازجة تأتي من الملكوت الأعلي بهواء نظيف منعش.. يطرد زفير الليل الملوث بأوزار البشر.
يا الله.. ما كل هذا الجمال!!
وما أروع هذه اللحظات المدهشة!!
ها هو الصبح يتنفس بهذا الابداع الرباني.. الذي استحق أن يقسم البارئ المصور به. "والصبح إذا تنفس".. الصبح يأخذ شهيقاً عبقاً يجدد خلايا الكون ويفتح مسامه.. ليبث فيه أكسير الحياة.
هذه اللحظات جديرة بأن نعيشها ونستمتع بها ونحرص عليها.. حيث يصفو الذهن.. وتصفو الروح.. ويصفو الكون من حولنا.. هي حالة صفاء كاملة شاملة.. لا صخب فيها ولا ضوضاء ولا ازعاج.. كل شيء يترقب لحظة الميلاد الجديدة.
يستحق الشفقة كل من يغفل عن هذه الساعة.. ولا يستمتع فيها بصحو الكون.. فلا يري خروج النهار من الليل.. ودائماً يأتي النهار جميلاً مشرقاً مهما طال الليل وثقلت أستاره.. يأتي النهار ليمحو الظلمة.. ويحمل التفاؤل بكل ما هو خير ورائع ومبشر وجميل.. سيذهب الظلام حتما ليأتي النور.. فنبصر الحقائق من حولنا.. وتذهب منكرات الليل.. وسبحان من يخرج الحي من الميت.. ومن يخرج النور من الظلمات.
هناك من يجد متعة في لحظات الغروب.. وتبهره ألوان الشفق.. خاصة عندما تسقط الشمس في مدي البحر البعيد.. وتنسحب من الكون بعد أن تكون قد أدت واجبها.. تذهب لتستريح خلف الرؤي من عناء يوم طويل.
وهناك من يجد متعة في السهر ليلا.. ويري في ساعات الليل جمالاً وسحراً.. كثيرون يفعلون ذلك في أيامنا.. يسيرون في الاتجاه المعاكس لحكمة الخالق العظيم.. الذي جعل الليل لباساً والنهار معاشاً.. وقال عن الليل: "لتسكنوا فيه".. وأقسم به: "والليل إذا عسعس".. هؤلاء حرموا أنفسهم من أجمل لحظات العمر.. لحظات ما قبل الشروق.. لحظات الصبح إذا تنفس.
هذه اللحظات -صدقني- هي أنسب الأوقات للترويح عن النفس المثقلة بهموم الدنيا.. لحظات ملهمة.. تشعر فيها كأن الكون يستيقظ من نومه.. وتصحو الكائنات لتبدأ رحلة الحياة في همة ونشاط.. رحلة الخروج للبحث عن الرزق والمجاهدة.. وتري الصبح يسفر عن وجهه المضيء.. صفحة بيضاء يكتب فيها كل منا وقائعه لما سيكون في يومه الجديد.
أعشق هذه اللحظات جداً.. أراها أفضل أوقاتي.. أحرص علي استثمارها في القراءة والكتابة.. أو في المشي مبكراً.. أكون أكثر قدرة علي الاستيعاب والتركيز.. عودت نفسي من زمن بعيد أن أتخذ قراراتي المهمة وأحسم اختيارتي في تلك الساعة التي لا توازيها ساعة.. عندما أكون قادراً علي التفكير بشكل أفضل.. وقادراً علي قهر نوازع الشر في نفسي واستدعاء النفس المطمئنة.. وأشعر أنني أقرب إلي الله عز وجل.
أدعوك- عزيزي القارئ- أن تجرب ذلك ولو مرة واحدة.. ولن تندم.. بالعكس ستندم علي ما فاتك في عمرك من هذا السحر الرباني.
كان أهلنا في القري لا ينامون بعد صلاة الفجر.. كانت حركتهم تدب في الشوارع والبيوت والحقول قبل طلوع الشمس.. ثم يحصلون علي استراحة بعض الظهر.. ليبدأوا دورة أخري من العمل بعد العصر الي المغرب.. وكذلك كان يفعل أهل الصنائع في المدينة.. كانوا يستفتحون يومهم بأهازيج الفرحة والسعادة باليوم الجديد وما يأتي فيه من رزق.. وكانت أعمالهم وحياتهم مليئة بالبركة.
وفي أوروبا والدول المتقدمة يخرج الناس إلي أعمالهم مبكرين جداً.. الرجال والنساء يسيرون في الشوارع بهمة ونشاط كأنهم في طوابير عسكرية.. ولذلك ينامون مبكراً كما كان يفعل أجدادنا في القري.. لا مجال للسهر علي المقاهي وفي المسارح ودور السينما إلا في الليلة التي سيأتي بعدها يوم الاجازة الاسبوعية.
لا يقضي الليل علي المقاهي إلا العاطلون عندنا.. المغيبيون.. الخاملون.. الذين لا يطمحون إلي النجاح وتحقيق الذات.
اللهم بك أصبحنا.. وعليك توكلنا.. وأنت خير الحافظين.