جمال سلطان
مكتبة الإسكندرية .. الصرح الذي هوى
قبل أربعة عشر عاما ، ومع مفتتح الألفية الجديدة ، وفي العام 2002 ، كانت مصر على أبواب تاريخ هائل للريادة الثقافية عندما تم افتتاح مكتبة الاسكندرية ، إحياء لذكرى مكتبة الاسكندرية التاريخية العريقة ، مكتبة الاسكندر الأكبر التي كانت تسمى بالمكتبة العظيمة ، والتي ينظر إليها العالم كله باعتبارها مركز النور والاستنارة في الأرض قديما ، كان مشروع مكتبة الاسكندرية الجديد إحياء لهذا التاريخ ، وإنشاء مكتبة تستعيد مكانة ودور المكتبة التاريخية ، وفي حفل الافتتاح كانت قيادات سياسية وملوك ورؤساء وشخصيات ثقافية فذة من الحاصلين على جائزة نوبل حاضرة في افتتاح هذا الحفل الكبير ، وكانت مكتبات العالم كله تتسابق لكي تتعاون مع المكتبة الجديدة التي تحمل عبق التاريخ ، ونشطت مؤتمرات وندوات ومحاضرات لرموز ثقافية ضخمة تدشن هذا المشروع العملاق ، واليوم ، بعد أربعة عشر عاما ، هل ما زال أحد في مصر أو العالم يذكر شيئا عن تلك المكتبة ، هل يتذكر أحد أن في مصر مكتبة عالمية اسمها "مكتبة الاسكندرية"؟ . منذ نشأتها ، تولى الدكتور اسماعيل سراج الدين رئاستها ، وعلى مدار تلك السنوات الأربعة عشر كانت مكانة المكتبة ودورها ونشاطها يتراجع ، دوليا ومحليا ، وشيئا فشيئا تحولت إلى ما يشبه المتنزهات العامة التي يقضي فيها أطفال المدارس بعض الرحلات الترفيهية ، والتجول بين أرفف مكتباتها أو اللعب على أجهزة الكومبيوتر مع أخذ الصور التذكارية ، تحول المشروع العملاق إلى "سبوبة" للارتزاق والوجاهة الاجتماعية والثقافية ، في ظل عجز واضح وفقر ثقافي وترهل إداري ،انتهى بها إلى زوايا النسيان ، ومنذ تاريخ نشأتها ، أربعة عشر عاما ، تغيرت على مصر حوالي تسع حكومات وتغير على وزارة الثقافة حوالي ثماني وزراء ، ولكن إسماعيل سراج الدين ، في كرسيه الوتيد ، لا يقترب منه أحد ، ولا يطلب منه أحد جردة حساب ، ولا يسأله أحد عن هذا الانهيار في دور المكتبة ورسالتها وجاذبيتها ومكانتها العالمية ، أربعة عشر عاما لا يفكر أحد في مصر في أن يضخ دماء جديدة في قيادة هذا الصرح الكبير ، وكفاءات ثقافية لم يصبها الترهل والمحسوبية وصناعة شبكة علاقات عامة للحماية الشخصية ولحماية الكرسي الذي يضمن لصاحبه راتبا أعلى من راتب الوزير ، ومكافآت سخية على الدور الكبير الذي لا يسمع به أحد أصلا ، وجولات "سياحية" مجانية بصفة منتظمة في مختلف أقطار العالم بوصفه ممثلا للمكتبة العريقة . إذا قدر لك أن تحضر ندوة أو مؤتمرا عقدته مكتبة الاسكندرية قبل عشرة أعوام ، ومؤتمرا آخر عقدته هذا العام ، فلن تسمع من خطبة الدكتور إسماعيل سراج الدين العظيمة في مفتتح الحفل أكثر من حديث مكرر عن برنامج الكتروني لفهرسة المواد العلمية ، وهو برنامج قام عليه مدرس شاب بجامعة الاسكندرية مع أربعة طلاب ، وهو عمل يمكن أن يقوم به شركة برمجيات صغيرة في شقة من شقق الإسكان الشعبي ، ولا يوجد لدى إسماعيل سراج الدين غير هذه القصة لكي يكررها أمام الحضور بلا ملل ، وهي تكفي وحدها لبيان مدى الإفلاس الذي وصلت له المكتبة العريقة ، ومدى الضحالة التي انتهت إليها بعد أن كانت حلما مصريا وصفته الصحافة العالمية وقتها بأنه "هرم رابع" في مصر ، بينما يمكنك أن تولي وجهك شطر النشاطات الثقافية في المملكة المغربية أو الإمارات أو قطر وتقارن ، لتعرف كم تضاءلت صورة مصر ومكانتها الثقافية حتى في عالمها العربي رغم وجود "الهرم الرابع" فيها . تتقدم مصر اليوم بمرشحها في سباق قيادة اليونسكو ، وبغض النظر عن شخصية المرشحة المصرية ، إلا أن المنطق البسيط يقول : كيف تقنع العالم بأن لديك من هو مؤهل لإدارة الثقافة العالمية ، في حين أنك أفسدت وأهدرت ما كان طوع يديك وفي بلدك مثل مكتبة الاسكندرية ، كيف تقنع العالم بأن لديك كفاءات قادرة على إدارة اليونسكو وقد أثبت لهم طوال أربعة عشر عاما أن بلدك تفتقر لمن يعوض "الخراب" الذي أحدثه اسماعيل سراج الدين في مكتبة الاسكندرية ، حتى جلس على كرسيها أربعة عشر عاما لا يقترب منه أحد ولا يرثه أحد ، لأن مصر خواء ، ولا يوجد فيها أي مثقف كفؤ غيره على ما يبدو . ما حدث ويحدث في مكتبة الاسكندرية ، مجرد نموذج ، على أن مصر لا تعاني فقرا ـ ماديا أو معنويا ـ بقدر ما تعاني سوء إدارة وسوء اختيار للكفاءات وسوء اختيار وقت تغيير القيادات المترهلة وسوء استثمار ما تملكه من ثروات ، وهو ما ينتهي ـ بداهة ـ بإهدار مقدراتها المادية والمعنوية بكل سهولة .