فاطمة ناعوت
الذهبُ الزائفُ على قمم التلال
“من وقت لآخر، أقوم بعمل مذبحة صغيرة لا يعاقبُ عليها قانون المذابح. ولكن حسابَها عسيرٌ في قانون الضمير والأخلاق. أتعذبُ وأنا أبتر ذلك الإصبع، ويتأذى ضميري وأنا أنحر هذا العنق، أو أفصل تلك الذراع الورقية أو تلك القدم الجلدية، عن الجسد الخشبي. كم حلمتُ أن أحوذ مكتبة بحجم المحيط الأطلسي. لكن بعض الأحلام غير مشروعة. الكتبُ في العالم أكبر من أكبر مكتبة. ومكتبتي الخشبية مسكينة تأنُّ تحت وطأة ما تحمل من متون ومخطوطات وكتب ومجلدات وموسوعات ومعاجم تتوالد وتتكاثر كل يوم. لهذا أقوم بتلك الجريمة من وقت لآخر، فأتخلص من بعض الكنوز في مذبحة الكتب التي أضطر إلى القيام بها من وقت لآخر.”
كنزٌ صغير وقع في يدي اليومَ وأنا أقوم بمهمتي الدورية في جرد مكتبتي. أذكرُ اللحظة التي وقعتُ فيها على هذا الكنز. كنت أتجولُ في خريف ٢٠٠١ بمدينة منهاتن الأمريكية، قبل يوم واحد من إعصار هيروكين الذي ضرب شرق أمريكا. ها هو شارع برودواي الصاخب، والمسارح من حولي مثل راقصات باليه جميلات في أوپرا حيّة صادحة لا تنتهي. ها هي ذي مكتبةٌ صغيرة. دخلتُ وتوجهت رأسًا إلى قسم الأدب الذي يجذبني كما يجذبُ النورُ الفراشات. فتحتُ أول ديوان شعري صادفتُه على رفٍّ علويّ، وتركتُ المصادفة تختار لي القصيدةَ التي ستحدد إن كنتُ سأشتري الكتاب أم لا.
كانت أورسولا ك لي چوين، الشاعرة الأمريكية ابنة كاليفورنيا، عام 1929. وهذا ديوانها I Am My Inheritance، «أنا ميراثي»، عن دار «هاربر» 1988. واختارت المصادفةُ قصيدة: «الشوفان البريّ، وعُشبة الصفصاف»، التي قررتُ اليومَ أن أُهديها لقرائي بمجلة «نصف الدنيا»، بعد ترجمتها للعربية.
أحلمُ بكَ،
أحلمُ بكَ تقفزُ،
أيها الأرنبُ
أيها الأرنبُ الأميريكيّ،
يا طائرَ الحَجَل.
الحمقاءُ، ابنةُ المهاجرين ،
مُسرفةٌ، هجينٌ،
وأنا
خليطًا بشريًّا عشوائيًّا كنتُ.
العشبةُ البريّةُ على جانبِ الطريق
تنثرُ بذورَها وسيعًا في المدى
تطمحُ في عبور المياه العظمى.
عجوزٌ أنا،
لستُ إلا حفنةً من التراب،
تعودُ إلى هذي الأرض،
مثل مُزارعٍ أجير.
آهٍ يا أمريكتي!
يا أرضي المكتشفةُ بالأمس!
هذا الشوفان البرّي،
مثلي،
غريبٌ عن هذي البلاد.
ها هو العشبُ
والذهبُ الزائفُ
على قمم التلال
على أبواب طفولتي،
كاليفورنيتي،
ليتني أستحقُّ النواة: حبّة اللقاح:
الكلمة التي تُقال حينما يعلو الماء:
ألوانُ الأرض الأربعة.
دعني قبل موتي
أمكثُ في الحياة
وأعبر حزمةَ الأشياء الساكنة
نحو الاتجاهات الستة.
دعني أحلُمُ
دعني أحلُمُ بك تقفزُ،
أيها الأرنبُ،
الأرنبُ الأمريكي،
يا طائرَ الحَجَل.
العشبةُ الحمراء على جانب الطريق
تُزهرُ،
وتشتعل،
وحطامُ سانت هيلينز،
ليس إلا راقصةً طويلةً،
ترقصُ في الريش،
وتنثرُ بذورَ رمادِها.
آهٍ يا أمريكتي!
من حيث ثلوج الشمال، والغربان
مرورًا بأراضي ذئاب البراري،
ومرتفعات الشمس والإمبراطوريات،
إلى حيث ثلوج الجنوب،
وأرض النار،
يقف ساكنو الصخور،
الآنديز،
يشاهدون عظامَ ظهرِ النسرِ الأسود
الغارزِ أظفارَه في جدرانِ الحظيرة،
حيث الهوامْ،
والحشرات.
جسدي ظفرٌ
ونسرٌ.
زفيري رصاصةٌ
وريشة.
سأعودُ،
أدورُ،
أدورُ في المكان.
أنا ميراثي.
على حافةِ الجبل
ثمة غيمةٌ تتدلى
وقلبي
قلبي
قلبي يتدلّى معها.
تعلمتُ أخيرًا الاتجاهَ الأخير.
وربما قبل الموتْ
أتعلمُ أيصًا
بعض كلماتٍ
من لغتي.