البلطجة ظاهرة اجتماعية، وجزء لا يتجزأ من تاريخ البشر، ويختلف موقع البلطجية من النظام السياسى الذى يحكم تبعاً لظروف الزمان والمكان. فقد تشهد أوقات وأماكن نوعاً من التحالف بين البلطجية وبعض أجهزة الدولة، وقد تشهد أخرى انحيازاً من جانب البلطجية إلى المواطنين العاديين، وتوليهم عبء الدفاع عنهم، مقابل التمرد على السلطة. لم تختف البلطجة فى أى لحظة من لحظات التاريخ المصرى، وقد تجلت بوجهيها السلطوى والشعبوى فى مواقف عديدة. تذكر كتب التاريخ الدور الذى لعبه الشطار والعيارين، من أمثال على الزيبق، فى حماية أنظمة الحكم، وكيف أنهم كانوا يساندون ولاة الشرطة فى فرض الأمن على الرعية فى أحوال، وكيف حلوا محلهم فى مواقف لتصبح مهمة فرض الأمن وقمع المواطنين مهمة خاصة بهم وحدهم، بما فى ذلك تأمين الخلفاء والمواطنين، وكان يطلق على الشاطر فى هذه الحالة لقب «مقدم الدرك».
فى ضوء هذه العلاقة التاريخية التى تربط بين البلطجية وأجهزة الدولة، وخصوصاً جهاز الشرطة، نستطيع أن نقرأ الأحداث الأخيرة التى تشهدها قرية شما -إحدى قرى المنوفية- بعد مقتل زعيمها محمد عيسى العليمى الذى يلقبه بعض أهالى القرية بـ«رئيس جمهورية شما»، على يد عائلة أبوحريرة. يؤكد أهالى القرية أن هذه العائلة تشتهر بتجارة السلاح والمخدرات، وقد سبق وقتلت قبل عامين خمسة من أبناء القرية فى وضح النهار، ليتم إخراجها من القرية بجهود أهلية وعرفية قادها «العليمى»، وكان جزاؤه عليها إمطار جسده بالرصاص. يزعم الأهالى أن ارتباك الأوراق ومتاهات المحاكم والإجراءات أدت إلى إفلات المتهمين العشرين الذين تم القبض عليهم بتهمة قتل 5 من أبناء قرية شما، لترتكب العائلة جريمة قتل «العليمى»، عقب الإفراج عنهم. قرية شما الآن فى حالة غضب، دفعت بعض الأهالى إلى اتهام الشرطة بالتقصير فى حمايتهم، مؤكدين أن هذا الجهاز ينحاز إلى عائلة أبوحريرة، فى مشهد يذكرنا بهذا التلاحم الذى حدثتك عنه بين فرق الشطار والعيارين وولاة الشرطة فى العصور الغابرة.
عبر أهالى قرية «شما» عن اعتراضهم على ما يحدث بأشكال عدة، تظاهروا فى طرقات القرية، واحتشدوا بمساجدها، وحاصروا مركز الشرطة، وما زالوا يعبرون عن اعتراضهم على مقتل كبيرهم، وتراخى الشرطة فى التعامل مع الأمر، ويخشون من التستر على الأمر، ليذهب دم المغدور هدراً، كما ذهبت دماء أبناء القرية الخمسة الذين سبقوه، بسبب العلاقة التى تربط بين الشرطة وعائلة أبوحريرة. ربما لم يقرأ بعض أهالى «شما» حكايات الشطار والعيارين وعلاقتهم بولاة الشرطة، لكن المرجح أن أغلبهم يعلم حكايات «عزت حنفى» إمبراطور تجارة «البانجو» بجزيرة «النخيلة» والذى كانت تربطه علاقات وطيدة بجهاز الشرطة، حين كان يتولى الداخلية «حبيب العادلى»، ويفهمون أن «حنفى» فعل ما يريد بأهالى «النخيلة» دون حسيب ولا رقيب، وعاش آمناً من أى هجوم شرطى على جزيرته المحصنة بأعتى الأسلحة، إلى أن حدث خلاف بينه وبين الوزارة، أدى إلى حشد 3000 جندى ليتولوا اقتحام الجزيرة ويقبضوا على عزت حنفى، وكأن بإمكان البلطجى أن يفعل ما يريد بالأهالى، وتكون «وقعته سودة» لو أغضب الحكومة، فالبلطجى يظل آمناً ما فهم أنه جزء من الحكومة، ويسقط فقط حين يصرخ «أنا الحكومة»..!.