لست صغيرا.. إنما أبلغ من العمر ثلاثين عاما.. قالها وهو ينظر لى فى مرآة سيارة الأجرة.. كنت قد تجاذبت معه أطراف الحديث بعدما طالت بنا الطرق المزدحمة كالعادة فى أوقات الذروة الممتدة. كان يمسك بسيجارة فى يده، وكنت لا أطيق رائحة الدخان ورقّ قلبى لحال شاب فى مقتبل العمر، ربما فى الحادية والعشرين على الأكثر أن يؤذى صحته بالتدخين، فقلت: أراك تدخن ولا تزال صغيرا. قاطعنى بجملته تلك أنه ليس صغيرا وأنه فى الثلاثين من العمر. تابعت حديثى وقلت: لا أقصد أنك صغير على التدحين وإنما قصدت أنك لا تزال فى بداية طريقك لهذه العادة السيئة ويمكنك التراجع عنها بسهولة أكثر من الذين أدمنوها ويعانون منها، وعموما أستأذنك أن تتوقف عنها الآن، لأنى أعانى من حساسية فى الصدر. الحقيقة أنه ابتسم لى وألقاها من النافذة (السلوك الذى أكرهه، إلقاء المهملات فى الطريق العام) لكنى سكتّ برهة ثم سألته عن مؤهله. قال: أنا خريج معهد الخدمة العامة.. قلت له إنه تخصص هام ومفيد لكثيرين من طلبة المدارس والجامعات.. سألته إن كان يعمل فى مجاله، فأجابنى بالنفى. هذه الشغلانة هى العاشرة تقريبا لى (سائق تاكسى) وأذكر منذ بضع سنوات أن راتب الإخصائى الاجتماعى كان 350 جنيها.. فما رأيك؟ لفنى الصمت وأنا لا أدرى ماذا أقول له.. ثم قال فجأة.. انظرى حضرتك لسلوك قائدى السيارات من حولنا البعض يقود بتهور.. والآخر يأتى من أقصى اليمين لليسار فجأة.. أنانية.. مثل هذه السلوكيات تضاعف ازدحام الطرق. قلت: رأيت أحدهم فى الطريق الدائرى يقود دراجته عكس الطريق فى الحارة السريعة..
ضحك وكنت قد وصلت أخيرًا لمقصدى.. توقف. ناولته الأجرة.. لم يكن هناك فكة.. سعدت بأن أترك الباقى له.. مرة أخرى ركبت سيارة ملاكى (مشروع الأجرة).. والتقيت بشاب آخر بدى لى من هيئته وهو يقود سيارته الخاصة أنه من الطبقة فوق المتوسطة، فسيارته حديثة، أتوماتيك، أما هو فكان صامتا، بل بدى لى حزينا للغاية.. سألته عن دراسته، فأجابنى بيأس: سياحة وفنادق، قسم إدارة فنادق.. قلت له تخصص جميل جدا.. وما الفائدة؟ السياحة تعبانة. ولكنك تعمل بسيارتك فى هذا المشروع بجدية ولم تمكث فى البيت.. كان يهز رأسه بأسى.. لم يستطع إخفاء دموع فى عينينه، مد يده بهدوء ليمسحها، وبدا لى وكأنه مجبر على هذا العمل طيلة اليوم بعد سنوات من المذاكرة والسهر.. صمتّ أفكر قليلا.. ثم قلت له: هل جربت أن تلجأ لأحد الفنادق الدولية فى مصر؟ قال على الفور: لا عمل.. لا أمل. قلت: لا يهم.. حاول أن تقنعهم بالتدريب مجانا فى فنادقهم، إلى جانب عملك على السيارة، فلا بد أن عندك أوقاتا لا تقود فيها، فأنت حر إلى درجة ما فى وقتك أليس كذلك؟ أنصت إلىَّ وقد بدأ يستشعر أملا فى حديثى.. أكملت وقلت: عليك الحصول على شهادات خبرة من أحد هذه الفنادق، عاما، عامين، ثم قدم أوراقك لأحد فنادق نفس السلسلة الدولية فى أى بلد آخر.. سيكون هناك، إن شاء الله، فرصة للعمل لديهم، لأنهم يفضلون ذوى الخبرة فى فنادقهم.. وصلت لمشوارى وتركته متمنية له التوفيق وأنا أشعر ببعض الأمل ينفذ إلى نفسه البائسة..