لم تنج الصحافة من لوم أى من رموز الحكم فى مصر طيلة السنوات الثلاث الماضية. الكل عتب عليها، وبلغ العتاب فى بعض الأحوال منصة التهديد بالشعب أو بالقانون، حتى يعرف الصحفيون كيف يكون الحديث عن السلطة، وبأى طريقة يعالجون قراراتها وتوجهاتها. السيد رئيس الجمهورية وجه اللوم إلى الإعلام، وكذلك فعل رئيس الوزراء، وهو ما فعله أيضاً رئيس مجلس النواب. وفى طيات اللوم ظهرت اتهامات وبرز حلم، فأما الاتهامات فتمثلت فى الإثارة وعدم التدقيق فى نشر المعلومات والتسبب فى مشاكل لمصر (حالة الطالب الإيطالى ريجينى نموذجاً)، وأما الحلم فيتمثل فى أن يعود الإعلام إلى ما كان عليه فى الستينات.
لا يستطيع أحد أن يبرئ الصحافة من الخطأ، فالعاملون فى المهنة أحياناً ما يخطئون، وقد تتسبب أخطاؤهم فى بعض المشكلات، لكن شأنهم فى ذلك لا يختلف عن شأن العاملين فى العديد من المهن. الأطباء يخطئون والشرطيون يخطئون والوزراء يخطئون، الخطأ وارد فى أى مهنة، لكن فى مقابل الأخطاء لعبت الصحافة المصرية -ولم تزل- دوراً مهماً فى النهوض بهموم هذا الوطن، والدفاع عن قضايا المواطن، رغم ما يمارس عليها من تضييق، وما يفرض عليها من قيود، وصلت مؤخراً إلى حبس «يحيى قلاش» نقيب الصحفيين، واثنين من أعضاء مجلس النقابة (خالد البلشى، وجمال عبدالرحيم)! ظلت الصحافة المصرية تقوم بدورها غير آبهة بما يلقى فى طريقها من عقبات من جانب أنظمة وحكومات تزعجها الحقيقة، ويقض مضجعها تناول أدائها بالنقد والتقييم، ولا تؤمن إلا بسياسة الصوت الواحد. لا تستوعب السلطة أن أفكارها قديمة لم تعد تصلح لصحافة الزمن الجديد، الزمن الذى أصبحت فيه الصحافة قادرة على عبور الورق إلى سطح الشاشات الإلكترونية، وأمسى كل مواطن فيها صحفياً بالقوة، حتى تضعه الظروف فى موقف يجعله صحفياً بالفعل، لذلك فحبس الصحافة يعنى حبس وطن.
تعال بعد ذلك إلى حلم العودة إلى إعلام الستينات. قال الرئيس ذات يوم إن عبدالناصر كان محظوظاً بإعلامه. وتقديرى أن الأمر كان عكس ذلك. فربما كان عبدالناصر أسعد حالاً لو امتلك إعلاماً حراً. ودون الخوض فى تفاصيل نظرية، يعلم أى متخصص فى مجال الإعلام أن النسبة الأكبر من إعلام عبدالناصر دارت فى فلك الدعاية، لأن التعبئة والحشد وظيفة من وظائف الدعاة، وليس الإعلاميين، الإعلامى وظيفته التنوير بالحقيقة، وتبصير الجمهور، وتنبيهه إلى سلبيات وإيجابيات الأداء داخل مؤسسات الدولة، وليس دفع الجماهير إلى تبنى وجهة نظر السلطة. فى الستينيات فاقت مساحات الكذب مساحات الصدق فيما تنشره الصحف من مواد، وكانت النتيجة كما تعلم «نكسة» مكتملة المعالم والأركان. بعدها بدأ محمد حسنين هيكل يتحدث عن «سياسة الباب المفتوح»، وبدأ أحمد بهاء الدين يكتب عن «الدولة العصرية»، ولكن بعد خراب مالطة!.
كانت الصحافة المصرية ولم تزل مستهدفة، لأنها عصية على الترويض، فبإمكانها أن تهتم بما يمنع غيرها من وسائل الإعلام من الاهتمام به. قضية تيران وصنافير، قضية قتل مواطنين على يد شرطيين (وآخرهم المواطن مجدى مكين)، قضية الفساد داخل بعض مؤسسات الدولة، هذه القضايا وغيرها شغلت الصحافة أكثر من وسائل الإعلام الأخرى. فى كل صحيفة من الصحف سوف تجد أقلاماً تغرد بعيداً عن الجوقة التى تعمل فى سيرك التأييد. الصحافة المصرية تجربة فى المقاومة الإيجابية من أجل الإصلاح، وحريتها طوق نجاة ليس للمواطن فقط، بل للحاكم أيضاً!.