الأهرام
مصطفى كامل السيد
رحيل أستاذ جامعى
كم كان المشهد مختلفا داخل مسجد عمر مكرم بميدان التحرير منذ حوالى أربعين يوما عندما ذهبت لتقديم واجب العزاء فى الزميل العزيز الدكتور محمد السيد سليم أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد جامعة القاهرة بالمقارنة بما كان عليه الحال فى المرات العديدة التى ذهبت فيها إلى ذلك المسجد الشهير فى السنوات الأخيرة فى مناسبات مماثلة. فى تلك المرات السابقة كان سائقى يعانى الأمرين ليجد مكانا لسيارتى بالقرب من المسجد، وكان على أن أدقق فى صفوف الجالسين داخل المسجد لأجد مقعدا لى لكثرة الازدحام. توقعت أن يكون ذلك هو نفس الأمر وقد ذهبت بعد صلاة العشاء مباشرة، ولكن لم يكن الحال كذلك. تذكرت أنه فى المرات السابقة كانت المناسبة مختلفة فقد كان الفقيد إما قريبا من أحد الوزراء الذين تصادف أن عرفتهم، أو واحدا من مشاهير الإعلام. قلت فى نفسى لايمكن مقارنة أستاذ جامعى بهؤلاء، فليس له حظوة كبرى فى مجتمعنا.

ومع ذلك فقد تملكتنى الحسرة لأن محمد السيد سليم لم يكن مجرد أستاذ جامعى اختطفه المرض العضال، ولكنه كان قديرا فى أستاذيته، وطالبا نابغا منذ دراسته الثانوية ، ومثلا رائعا فى إلتزامه بقضايا الوطن عمليا ونظريا. استعدت المحطات الأساسية فى معرفتى الوثيقة به، وأحزننى أن وداعه لم يكن على مستوى ما أعطاه لوطنه وطلابه على مدى خمس وثلاثين سنة من التدريس والبحث فى جامعات مصر والوطن العربي.

كانت بداية معرفتى به عند تخرجنا المدرسة الثانوية، فقد كان واحدا من الأوائل العشر على القسم الأدبى على مستوى الجمهورية فى سنة 1963،وإختار كلانا الإلتحاق بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية وإلتقينا معا فى حفل عيد العلم فى ديسمبر 1963 عندما حظينا مع كل المحتفل بهم ذلك العام بمصافحة الرئيس جمال عبد الناصر وضيف مصر فى ذلك الوقت الذى شاركه الإحتفال وهو رئيس وزراء الصين العظيم والحكيم شو إن لاي، وإستمرت صلتنا الوثيقة طوال سنوات الدراسة الأربع بكلية الإقتصاد، إذ كان ميل كل منا هو التخصص فى قسم العلوم السياسية، ومما زاد من معرفتى به إقامتنا سويا بالمدينة الجامعية لجامعة القاهرة التى كانت تحتضن أبناء الأقاليم مثلنا، وكانت بيننا مناقشات عديدة. وكم كان سرور محمد عظيما عندما كان يصطاد أحد التفاصيل الدقيقة فيما كنا ندرس، ويكتشف أنى لا أعرف هذه التفاصيل. ولكن هذه المناوشات الصبيانية بين الطلبة المتفوقين لم تقلل من تقديرى له. ثم تجددت الصلات بيننا بعد عودة كل منا من دراسة الدكتوراة بالخارج. أتم محمد دراسة الدكتوراة بجامعة كارلتون بكندا، وأتممتها بعد رحلة طويلة بمعهد الدراسات الدولية العالية بجامعة جنيف. ومن حسن حظ كل منا أن محمد تمكن من الإنتقال من جامعة الإسكندرية التى كان قد عين فيها معيدا ثم مدرسا إلى قسم العلوم السياسية بجامعة القاهرة الذى عينت فيه بعد تخرجى مباشرة، ولكن التفاعل الوثيق بيننا جاء بعد ذلك بسنوات ، بعد عودة محمد من سنوات طويلة قضاها فى التدريس بالجامعات السعودية، وخصوصا بعد أن شاء عميد كلية الإقتصاد والعلوم السياسية الدكتور على الدين هلال أن يعهد إلى محمد بإدارة مركز بحثى جديد هو مركز الدراسات الآسيوية الذى شاركته مع المرحوم الدكتور أنور عبد الملك فى وضع نظامه الأساسي، وخضت أنا غمار معركة إقناع جامعة القاهرة بإنشاء مركز سميته مركز دراسات الجنوب، وهى تسمية لم تعجب مجلس جامعة القاهرة الذى فضل تسميته بمركز دراسات وبحوث الدول النامية.

بدأ المركزان نشاطهما كبرنامجين مستقلين تحت إشراف عميد الكلية والذى لم يبخل عليهما بقروض بسيطة مكنتهما من بدء عملهما، حتى وافق مجلس جامعة القاهرة على إنشاء المركزين، وحتى نجحنا فى تدبير التمويل اللازم لهما بعد شكر عميد الكلية وإعادة ما اقترضناه من ميزانية الكلية. فى تلك الفترة تشارك المركزان فى غرفة واحدة بكلية الإقتصاد، ومساعدة واحدة تقوم بدور السكرتارية، وعدد محدود من المعيدين الذين تعاونوا معنا، وكنا نحن الإثنين نقوم بباقى المهام الإدارية والعلمية والتنظيمية والإتصالات الضرورية لتأمين عمل المركزين على النحو اللائق. تحسنت الظروف بعد ذلك وإستقل كل منا بغرفة منفصلة كان يعمل فيها عشرة من الباحثين والإداريين، ولكن من هذه الغرفة إنطلقت مشروعات محمد الرائدة فى إطلاق أنشطة الدراسات الآسيوية التى لم تقتصر على تنظيم مشروعات بحثية وعقد ندوات علمية يشترك فيها باحثون مصريون كانوا يطرقون هذا الحقل لأول مرة، ولكن شاركت فى هذه الأنشطة جامعات ومراكز بحثية مرموقة فى الهند وباكستان والصين واليابان وكوريا الجنوبية وماليزيا وجمهوريات وسط آسيا.

ودارت بعض هذه الأنشطة فى عواصم هذه الدول. كما استضاف محمد شخصيات بارزة من هذه الدول. وكان هو أول من إستضاف مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا الأسبق وقائد نهضتها فى محاضرة لاتنسى فى جامعة القاهرة، وقد تكررت زيارته بعد ذلك لمصر، مرة ثانية بدعوة من محمد، ومرة أخرى بدعوات من هيئات أخرى عرفت الطريق إليه بعد أن كان محمد هو أول من طرقه.وقد كان محمد كريما معى فقد أشركنى فى معظم هذه الأنشطة، وذهبنا معا إلى سول عاصمة كوريا الجنوبية بدعوة وجهت إلى مركز الدراسات الآسيوية، وإشتركنا معا فى حوار سمى إستراتيجيا بين مصر والصين رتبته وزارة الخارجية المصرية مع الحكومة الصينية.

لم يكن إهتمام محمد بهذه الأنشطة مجرد إهتمام أكاديمى محض، ولكنه كان يرى فيها طريقا لتوثيق العلاقات بين مصر وهذه الدول. وكثيرا ما كان يدعى لإلقاء محاضرات فيها يطرح فيها قضايا وطننا العربى وبالتنسيق مع وزارة الخارجية. وكنت أعجب فى المناسبات التى حضرناها معا لصراحته الشديدة فى تقييمه لمواقف هذه الدول من قضايانا. لم يكن يتردد فى تذكير ضيوفه أو مستضيفيه من الهنود أو الصينيين مثلا بعلاقات بلديهم العسكرية الوثيقة بإسرائيل، وكنت أنا من ناحيتى أفضل أساليب الدبلوماسية الهادئة بتذكيرهم أنهم يبيعون للعرب كلاما بينما يعقدون الصفقات الجادة مع إسرائيل، وأعرب عن تمنياتى بأن تقترن الكلمات بأفعال فى علاقات البلدين بالدول العربية.

أتصور أن محمد رحل عن عالمنا آسفالأن مركز الدراسات الآسيوية الذى قضى عقدا من حياته فى إدارته قد إختفى لأنه لم يحظ بعد أن تركه محمد لانتهاء المدة القانونية كمدير له بشخصية أخرى تملك عزم محمد وقدرته الخلاقة على إقامة الصلات التى تمكنه من توفير التمويل اللازم له، فالدولة المصرية لاترى فى هذه الأنشطة سوى مصدر للجباية، فلا تقدم لها أى مساعدة مالية، وأدمجت عمادة الكلية الحالية وتحت إلحاح رئاسة جامعة القاهرة نشاط الدراسات الآسيوية فى إطار مركز جديد لدراسات الأقاليم يعانى هو بدوره صعوبات كبرى فى تمويل أنشطته، كما أن الإشتراطات البيروقراطية لجامعة القاهرة لم تمكن محمد من الحصول على مشاركتها فى تحمل نفقات علاجه بالخارج، فبادر هو بتقديم استقالته من الجامعة احتجاجا على هذا الموقف.

لقد ترك رحيل الدكتور محمد السيد سليم فراغا علميا وسياسيا وعاطفيا. أتمنى أن تلهم سيرته من يسيرون على منواله.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف