الأهرام
يسرى عبد الله
قـلب الظـــلام
يقف «مارلو» البطل المركزى في رواية «قلب الظُّلام» الشهيرة للروائي العالمى جوزيف كونراد، على أعتاب المفارقة بين عالمين: أحدهما متحضر ومتقدم، والآخر همجي ومتخلف، غير أن هذه المفارقة الظاهرة كانت تخفي داخلها جوهرا استعماريا محضا، يمثله على نحو أكثر دقة «السيد كورتز» تاج العاج، والرامز إلى أسطورة التفوق النوعي المزعومة للرجل الأبيض، والذي يحمله مجموعات من العبيد في مشاهد دالة داخل الرواية عبر موكب تنفتح أمامه الطرق، وتتوقف المشاجرات الدائمة بين أبناء المكان، لقد أوقفنا جوزيف كونراد أمام عالم لا إنسانى، تختصره الكلمات الأخيرة التي تأتي على لسان «كورتز»: الرعب.. الرعب.. الرعب.

أي رعب يواجه المجتمعات البشرية حين تفقد إنسانيتها، وتتخلى عن نزوعها إلى العدل، والحرية، غير أن رعبا آخر ربما يواجه مجتمعاتنا العربية حين تتخلى عن قيمة العقل، لصالح الخرافة، وتجعل التفكير موضوعا للمساءلة.

ما الذي يجعل جماعة بشرية تحرز تقدما في المجالات المختلفة؟ وما الذي يدفع بأخرى إلى الهاوية؟ وما الحدود الفاصلة بين خطابات التقدم وخطابات التخلف؟ ربما تمثل هذه الأسئلة المتواترة أساسا للإجابة على حيرتنا وارتباكنا وتراجعنا المخزي وسط عالم ديناميكي، يرنو دائما صوب الأمام.

يملك العرب تراثا معرفيا خصبا، لكنه مشدود إلى الماضي، يبدو بطبيعته محكوما بالميتافيزيقا في جوانب عديدة منه، ويبدو في مواضع أخرى طارحا تصورا يقينيا عن العالم، مشغولا بالتكريس لما هو قائم، وبالتثبيت لما هو سائد ومستقر؛ ولذا كانت محاولات خلخة هذه البنى المعرفية الراسخة تجابَه دائما بآليات شتى من التنكيل والمقاومة من أصحاب التصورات الرجعية، وأبناء العقل المحافظ الموصول بسياق يتسم بالتسليم بالموروث، والاستنامة إلى الإجابات الجاهزة، وتحالفت السلطتان الدينية والسياسية كثيرا لوأد المشاريع الفكرية المستنيرة بحق، والتي تقدم عطاء مختلفا في مسيرة الثقافة العربية، وبدا المفكرون العرب الحقيقيون أبناء لميراث يعادي إنتاج الأفكار الجديدة، ويجعل من التكفير سلاحا لمقاومة التفكير الخلاق، وبدت المحن المتواترة لمفكرين عديدين تنبيء عن سياق من العتامة والضحالة في آن، وكان ما حدث مع ابن رشد دليلا دامغا على أمة تزحف صوب الماضي، وتكره الأسئلة، والتأمل، والنظر البعيد للعالم والأشياء، فأحرقت كتب ابن رشد، وهيمن العقل السلفي المحافظ، وأشيعت مقولات أسبغ عليها البعض قداسة وهمية، من قبيل: “ من تمنطق تزندق”، واستمر التراجع العربي منذ القرن الثاني عشر الميلادي، وبدأنا ننتقل إلى عصر محاكم التفتيش، التي كانت احتكارا أوروبيا بامتياز حتى هذه الفترة، وكان من بين ضحاياها فيما بعد العالم الإيطالي جاليليو جاليلي الذي اتهمته محاكم التفتيش الرومانية سنة 1632 بالهرطقة، وحكم عليه بالسجن ثم خفف الحكم إلى الإقامة الجبرية في اليوم التالي، مع منعه من مناقشة الموضوعات التي أثارها، وأعلنت المحكمة بأن كتاباته ممنوعة، وإذا كان بعض المؤخين يعتقدون بأن محاكمة جاليليو كان لها الأثر الأكبر في انتقال الثورة العلمية فيما بعد إلى أوروبا الشمالية، فإن اللحظة التي أحرقت فيها مؤلفات ابن رشد كانت لحظة فارقة في عمر الثقافة العربية أيضا، ومثلت انعطافة تاريخية يؤرخ بها لما قبلها ولما بعدها، حيث سقط العقل العربي بعدها في فخ التقليد والجمود والاتباع.

يصبح الاحتماء بالعقل إذن سبيلا إلى المستقبل، وتصبح المعرفة طريقا إلى التقدم، ولا شك أن ثمة محنة يلقاها العقل العربي الآن، هذه المحنة لها جذورها التاريخية، ومسبباتها المعرفية التي لم تزل تقدس الماضي، وتجعله بديلا للراهن المعيش، وهذه المفارقة المؤسية هي التي تجعلنا أمام أمة تحيا بين عالمين متناقضين: أحدهما قديم ورجعي، والآخر حديث ومتقدم، واستمرار هذه الصيغة الرجراجة يعني استمرارا لحالة البين بين هذه، وتكريسا للوضع الحضاري المتأخر الذي نعيشه الآن، وبما يعني أن خطاب الماضي أكثر هيمنة في الفضاء العام من خطابات المستقبل.

يبدو التنوير الحقيقي حدا فاصلا بين خطابات التقدم والتخلف، وتظل مراجعة الماضي العتيق بأفكاره ومظاهره مسألة حيوية لمغادرة سياقات باتت معطلة للسعي صوب الأمام، وحاكمة لحركة التفكير، ولذا تبقى المساءلة النقدية المستمرة حلا فكريا لمشاكلنا المتراكمة، إن التحولات التي مرت بها الأمم المختلفة للنهوض من كسلها العقلي، وتراجعها الحضاري، يعني أننا لن نخترع العجلة من جديد، وأن ما نحتاجه بحق يتمثل في إرادة حقيقية لمغادرة ما كان، والانتماء الفعلي لما هو كائن، بالانحياز إلى المعنى الذي يعنيه المستقبل لأمة تقف على حافة اليأس، حافة الهاوية.

تسهم الجماعات الدينية والتيارات المتشددة في تشكيل مناخات مؤسفة من القسوة والعتامة، وتلعب أدوارا مشبوهة لصالح التكريس للتخلف في عالمنا العربي، وتبدو المؤسسات الجامدة لدينا غير مدركة لواقعها، منعزلة عنه انعزالا كبيرا، ويتضاءل الدور الثقافي والتعليمي إلى الحد الذي لا يكاد يرى بالعين المجردة، فالمؤسسات الثقافية والتعليمية لدينا خارج الزمن، والقائمون عليها موظفون تقنيون، لا يدركون أن ثمة أمة في خطر، وأن واقعا متحولا ومعقدا يهيمن على العالم، فمقاومة الظلام لن تكون أبدا بدفن الرأس في الرمال، والاعتقاد بأن كل شيء جيد طالما أن كل شيء ساكن!.

وبعد.. صوب عالم نستحقه، ويستحقه ناسنا، لا بد من مساءلة الماضي لا تجديده فحسب، من وصل الناس بعالم من العدل والحرية، حيث ثمة حاجة حقيقية إلى التأسيس لسياق جديد يرتكز على أبنية مختلفة، تبدأ من الوعي بإنسانية الإنسان، وبأن حريته تعني وجوده، وأن تحرير وعيه يعني انحيازه إلى التقدم بلا مواربة أو ضجيج، فجدران الاستبداد، والمعرفة المهملة، وتقديس الخرافة، والفساد، والرجعية، والتمايزات الطبقية الشاسعة، والظلم الاجتماعي، تعد جميعها أسبابا للمحنة الدائرة التي آن الأوان للخروج من دائرتها الجهنمية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف