التحرير
أحمد بان
المصالحة ودور الحكماء
أعادت تصريحات السيد إبراهيم منير نائب المرشد العام للإخوان المسلمين لأحد المواقع التابعة لجماعة الإخوان أو القريبة منها، حديث المصالحة بين الدولة والجماعة إلى الواجهة من جديد، وبالرغم من أن مفردات حديث الرجل بدت مرتبكة ومشدودة بين أهداف فريق يرفض المصالحة محتجا بالدماء والأشلاء، رافعا قميص عثمان متحدثا عن الشرعية، وفريق آخر يرى أن الجماعة عبر تاريخها لم تغلق أبدا باب التفاوض والمساومة والصفقات مع أى نظام ملكيا كان أم جمهوريا، فقد وطنت نفسها منذ انتقالها من مربع الدعوة إلى مربع السياسة فى عام 1938، على أن تقبل أى تنازلات أو تعمل تحت أى سقف ما دام محققا للحد الأدنى من أهدافها أو مطالبها، فهكذا السياسة لا تعرف العداوات الدائمة ولا الصداقات الدائمة، بل هى مصالح دائمة، لذا بدا أداؤها عبر عقود متسما بلون معروف من المرونة والبراجماتية التى فتحت طريقها فى عالم السياسة، يبدو منير مترددا فى المضى بشجاعة فى الطريق، لا يريد أن يكشف عن كل ما يريد أو كل ما يستطيع أن يتنازل عنه وهذا فى تقديرى طبيعى، فالرجل يرمى بحجر فى بحيرة راكدة ولا يستطيع أن يواصل رمى الأحجار دفعة واحدة، فى مواجهة الطرف الآخر الذى استخف بالدعوة وتعامل معها باعتبارها إعلانا للهزيمة، يستلزم أن يخلع الرجل ما تبقى من ملابسه رافعا عرائض التوسل للنظام أن يقبل بالجماعة وفق أى شروط يراها، وهذا محض عبث لا يليق بوطن يعانى من صعوبات اقتصادية جمة، فضلا عن حالة من موت السياسة بشكل يبدو مقطوع الصلة تماما بمصر قبل ثلاثة أعوام من الآن. هل تحتاج مصر إلى مصالحة مع الإخوان؟ أم مصالحة مع نفسها، مع أقدارها وأدوارها كدولة؟ كشفت تجربة الأعوام الخمسة الماضية أن مصر أكبر من أى فصيل سياسى أو وطنى، هى أكبر من جماعة الإخوان التى ظنت نفسها قادرة على حكم مصر بمفردها على خلفية التشوه فى جسد النظام السياسى المصرى منذ يوليو 1952 إلى ثورة يناير، التى كشفت الغطاء عن هذا التشوه ومنحت الإخوان فرصة أن يبرهنوا على صدق وطنيتهم، برعاية انتقال ديمقراطى حقيقى وفتح الفضاء لنمو البدائل السياسية، التى تمنح الشعب فرصة كافية فى التعرف عليها وإعطاء ثقته لمن يرغب منها كان بإمكان الإخوان المشاركة فى بناء جبهة وطنية واسعة، تقود رحلة الانتقال من الحكم الشمولى إلى الحكم الديمقراطى وإصلاح المؤسسات، وفى القلب منها مؤسسة الشرطة والقضاء والإعلام كخطوات لازمة لنجاح التحول الديمقراطى وبناء البديل المدنى، لكن الإخوان بانتهازية دفعوا بعض ثمنها، تقدموا من الثمرة الحرام على أمل التهامها بمفردهم، وخلا المسرح من اللاعبين سوى اللاعب الأقدم والأقدر على حسم الصراع لصالحه، وتقدم الجيش رغبًا أو رهبًا لحكم البلاد فأمم فضاء السياسة بالكامل إلى حد تشكيل البرلمان على عينه وتحويله إلى جزء من السلطة التنفيذية، وبدا القضاء فى بعض سلوكه مدفوعا بالرغبة فى الانتقام ممن قام بإذلاله، كما اعتقد، وغطى الإعلام المعركة بطريقته المعروفة فى الانحياز للسلطة، أيًّا كانت توجهاتها وانحيازاتها، لم يمارس النظام السياسى الإقصاء والاضطهاد للإخوان وحدهم حتى على خلفية جريمتهم التى أظن أنهم دفعوا ثمنها غاليا، وبالرغم من ذلك يبدو البعض لم يشبع بعد من دمائهم مطالبا بالمزيد، مما أسهم على الجهة الأخرى فى صعود نزعات العنف لدى بعض الإخوان الذين تدحرجوا أكثر باتجاه ممارسة العنف.

تبدو الصورة الآن كالتالى: الإخوان منقسمون بين ثلاثة أقسام، الأول هو الأكبر حجما، لكنه ربما الأقل تأثيرا، لأنه لا يزال يعتصم بالصمت وقد خرج من المشهد بعد أن تسلم رسالة الدولة القوية فى رابعة، التى كانت تقول بوضوح لن تعودوا للحكم لا سِلمًا ولا حربًا، انتهى الأمر، وقد فهموا الرسالة وقدروا أوزان القوى بدقة، فلزموا منازلهم وغادروا المشهد ولم يعودوا فاعلين بأى قدر، وإن لم تستثن الكثيرين منهم مضاعفات الصدام بين الجماعة والدولة، ودفع بعضهم ولا يزال يدفع ثمن أشياء وسياسات لم يشارك فيها ولم يباركها لا بيده ولا بلسانه، وفريق ثان فهم رسالة رابعة بشكل خاطئ فتصورها إعلان حرب، وتصور نفسه قادرا على خوضها وزين له شيطانه ذلك، فانخرط فى عمليات سماها حراكا ثوريا وسماها الأمن عملا نوعيا، ولم تكن سوى عنف تضمن حرق منشآت أو تدمير بنى أساسية أو قتل شرطى ومضى فى مسيرة العنف ولم يكن يوما قادرا عليه أو جاهزا له، مقارنة بالنظام الخاص الذى كان تكوينه وتدريبه عنفا محضا، أما الفريق الثالث فهو فريق عزت ومنير والذى يعبر عن جيل راهن على خوض معركة حقوقية فى الخارج أدواتها الإعلام والتواصل مع صناع القرار فى العالم، ومخاطبة الداخل بخطاب المظلومية التى لا يزال يراهن عليها، هذا الجناح بالذات يبدو مستعدا للانخراط فى مصالحة يراها متسقة مع سلوكه عبر عقود، فقد توافق مع السادات ومبارك ولا بأس أن يتوافق مع السيسى على شروط الوجود والتأثير، وقد دعا الحكماء لأن يطرحوا صيغة تجعل ذلك ممكنا، فهل يبدو ذلك هو المطلوب فعلا، أن تنتصب مجموعة من العقلاء والحكماء لرعاية اتفاق يؤبد الصيغة القديمة ولتذهب الديمقراطية للجحيم، أم أن حكماءنا إذا امتلكوا بالفعل شجاعة التقدم والفعل يجب أن يقدموا شيئا آخر. أتصور أنه إذا كان لا يزال بهذا الوطن حكماء وعقلاء، وهم كثر لا شك، فعليهم أن يتقدموا بمبادرة للمصريين تضع قواعد انتقال ديمقراطى صحيح، تضع فيه كل مؤسسة فى هذا البلد عند أدوارها الصحيحة، وتفتح الباب لعدالة انتقالية تضمن توفير أجواء جديدة تنزع فتيل الغضب والرغبة فى الثأر لدى هذا الفريق أو ذاك، فى مصر أغلبية صامتة لدى الإخوان وغير الإخوان وهى المدعوة للالتفاف حول دعاوى عاقلة للتغيير، تلتفت للواقع دون أن تتنكر للمستقبل أو تحتقر الماضى، على الحكماء أن يتقدموا كحكماء وليسوا كشهود زور على تسوية لن تمضى بمصر للأمام، بل قد تؤبد صيغة تصنع مآسى جديدة قد لا يحتملها الشعب ولا كيان الدولة المعتل.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف