المساء
محمد جبريل
العزلة قرار شخصي! السؤال يناوشني: ماذا بعد؟
يكر خيط الأسئلة: هل أخطأت في الموافقة علي إجراء العملية؟ هل كان يجب أن أقاوم الألم حتي يجد الطلب حلاً؟ هل يطول قعودي في البيت إلي نهاية لابد أن أتوقعها؟
اختياري هو البقاء في البيت للقراءة والتأمل والكتابة. المكتبة حياتي. أحفظ حجم الكتاب ولو من غلافه. موضعه في أرفف مكتبتي. لي مع كل كتاب فيها ذكري: هو من بقايا مكتبة أبي التي استنزفتها بالبيع أول أيامي القاهرية. أو أنه بعض ثمار زياراتي لسور الأزبكية. أو أنه من المكتبة الفلانية في البلد الفلاني. وربما هو إهداء من مبدع أو مفكر. تعبر كلمات الإهداء عن توثق صداقتنا.
كتب عبدالمنعم الصاوي - يوماً - عن حياتي في القراءة. اعتدت زيارته في مكتب رئيس مجلس إدارة دار التحرير. قبل أن أتجه إلي مكتبي القريب. يعرف - والكلمات له - أني لزمت البيت. أطلقت ذقني. وخلوت للقراءة.
كانت تلك بالفعل أحوالي في أيام انشغالي بإعداد بطاقات كتابي "مصر في قصص كتابها المعاصرين". عدا ضرورات العمل. فإن معظم وقتي بين كتبي وأوراقي. أحاول أن أتعرف إلي صورة مصر في إبداعات كتابها. لم تتح لي الظروف أن أصحب - مثل شتاينبك - كلباً. نطوف مدن مصر وقراها. استبدلت برحلة الأديب الأمريكي رحلة علي الورق بين آلاف القصص ومئات الروايات. أتعرف فيها إلي أبعاد الحياة المصرية خلال ما يقرب من قرن ونصف القرن. مع استعادة لوقائع وشخصيات تنتسب إلي مراحل سابقة في التاريخ. واستشرافات لصورة المستقبل.
أذكر - في السياق - الزلزال الذي قوض الكثير من البنايات. أخطر تأثيراته في حي مصر الجديدة. باع المستغلون رماداً بركانياً علي أنه أسمنت. شيدت به العمارات المتعددة الطوابق. اهتزت عمارتنا ذات الطوابق الستة. وتهيأت للانهيار. وقعت علي محضر الشرطة بموافقتي علي ترك البيت قبل سقوطه. مع ذلك. فقد لزمت شقتي. لم أتصور أني أبتعد عن مكتبتي. إذا أنهارت فسألقي مصير الجاحظ ويوسف كرم اللذين ماتا تحت ركام الكتب.
ما اعتدته طيلة عمري. تبدل معناه بانقضاء الأشهر. فالأعوام. بين الكتب. حتي المكتبات العامة أستريح للبقاء بين أرففها ومجلداتها. ما يرضي اهتماماتي. لكن الحال - كما قلت - تبدل. لم يعد بقائي في البيت باختياري. لكنه اختيار المرض. هو الذي قيد حركتي بتأثير العملية الفاشلة. لا أستطيع - إلا بمعاناة - ترك البيت. المثل يقول "السجن سجن ولو في جنينة". المعني عبقري. فالعزلة قرار فردي. اختيار شخصي. إن جاوز المعني. وصار قيداً يلزمنا البقاء في المكان. فهو إذن سجن تشقينا الحياة فيه. ونتمني هجره.
حريتي في لزوم البيت هي اختياري. وقت أقضيه في القراءة والتأمل والكتابة. من الصعب أن يتحقق ذلك الوقت بالقهر. بفقدان حرية الحركة. حتي لو لم أكن أريدها في هذه الأوقات. ما أريده. ما أحبه. ما أتمني حدوثه. يجب ألا يتحقق بغير إرادتي. لا يملي عليّ.
أعود من تأملي للكتب علي الأرفف. أخشي لو أني أطلت النظر فسيشملني الضيق من كل ما حولي. الكلام والحرية والتأمل والتفكير والإبداع. ذلك كله يرفض القيد. حتي لو اختار المرء فعلاً مغايراً. لو أنه اختار الصمت. أو السهر. أو المشي. فذلك قراره الشخصي.
القهر لا يصنع حرية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف