جمال سلطان
استشهاد الشيخ نادر العمراني
هذا حدث بالغ الخطورة ، بعيدا عن الآلام التي نتجت عنه وخسارة الأمة لقيمة علمية وسطية وواعية وملهمة ، لأن الوقائع التي رواها المجرم الذي تم ضبطه ، والفتاوى التي صدرت والشخصيات التي نسبت إليها والمجموعة التي اختطفته وارتكبت الفعل الإجرامي الآثم ، كل ذلك يستدعي وقفة وتأملا كبيرا ، لأنه مؤشر على أكثر من حقيقة كانت الأعين غافلة عنها . الدكتور نادر العمراني عالم ليبي مرموق وعضو لجنة الفتوى بدار الإفتاء الليبية ، وشخصية معروفة باعتدالها ووسطيتها في عموم العالم العربي والإسلامي ، وحتى المختلفون معه كانوا يشهدون له بسعة الصدر والسماحة وعفة اللسان مع العلم الواسع ، وكان له مثل غالبية كبيرة من الليبيين موقف رافض لما يفعله اللواء خليفة حفتر زعيم الميليشيات المسلحة في الشرق الليبي من بقايا جيش القذافي ، ويرى أن ليبيا التي دفعت ثمنا كبيرا من الدم والدماء من أجل إطاحة القذافي ليست بوارد القبول بقذافي آخر أو حكم العسكر ، وأن الشعب الليبي يستحق أن يحيا بكرامة وحرية واحترام لإرادته السياسية وحقه في الاختيار وتداول سلمي للسلطة ، وكان العالم الجليل يجمع إلى تضلعه في علوم الشريعة وعيا بحال الأمة ومشكلاتها وكان منحازا بالكامل للربيع العربي ، وهذا ما جعل معسكر الجنرال حفتر يضعه في خانة الخصوم والأعداء ولا يتركون فرصة إلا ويتوعدونه ويشنعون عليه هو وغيره من علماء ليبيا وخاصة دار الإفتاء ، وكذلك كان يفعل تنظيم داعش الإرهابي في ليبيا الذي كان يرى خطاب العمراني خطرا عليه ، كما كان العمراني نفسه يعتبر داعش كارثة حلت على الإسلام والمسلمين ولم يتوان عن التصدي لها بفكره وعلمه وحكمته . الذي حدث أن مجموعة إجرامية خططت لخطف الشيخ نادر العمراني وقتله في العاصمة طرابلس ، فكمنت له وهو في طريقه لصلاة الفجر في مسجده ، واختطفوه إلى منطقة بأطراف العاصمة طرابلس ، ثم حفروا له حفرة بطول إنسان ، حسب ما ورد في الاعترافات ووضعوه فيها ، ثم أخضعوه لتحقيق سريع بأنه يهاجم علماء السلف ويقصدون طائفة ممن عرفوا باسم "المدخلية" وهم مجموعات سلفية متحالفة مع الجنرال خليفة حفتر ويقاتلون معه في الشرق الليبي بدعم إماراتي ، وقد وصلت قوات الأمن الليبي التابعة لوزارة الداخلية بالفعل إلى المكان الذي اعترفوا بقتله فيه وعثروا على الجثمان ، وقال القتلة أنهم حصلوا على فتوى من داعية سلفي مصري يدعى محمد رسلان عن طريق أحد تلامذته من أبناء الشرق الليبي وقد شارك في عملية الخطف والقتل ، وفي الاعترافات أنهم عندما قتلوه أفرغوا خزانة رشاش آلي بالكامل في جسده الطاهر وهو ينطق بالشهادتين . المجموعة التي ارتكبت تلك الجريمة الوحشية هي مجموعة دينية سلفية من الذين كانوا يهاجمون بشدة كتب الشيخ سيد قطب وأبو الأعلى المودودي ويصفونهم بأنهم محرضون على العنف والتطرف والتكفير ، فإذا بنا نرى تلك الفئة الضالة تتورط هي نفسها في أشد ألوان الغلو تطرفا ، استباحة الدماء للعلماء والشخصيات الدينية المختلفة معهم ، لدرجة التخطيط لاختطافهم من أمام المسجد وهم في طريقهم للصلاة ثم تصفيتهم على تلك الطريقة الوحشية ، وهو الأمر الذي يكشف أولا عن الخطورة البالغة لتلك الفئة التي كانت توهم الناس أنها ضد العنف والتطرف والغلو والتكفير ، بينما هي بؤرة للكراهية والتطرف واستباحة الدماء إذا واتتها الفرصة ، وثانيا ، تكشف تلك الواقعة عن أن العنف ليس وليد الفكر وحده ، أيا كان ، وإنما هو وليد خليط من الفكر والجهالة والتطرف السياسي ، فالحقيقة أن العنصر الفاعل في العنف والإرهاب هو التطرف السياسي وليس التطرف الديني ، والمعادلة هنا واضحة ، فهناك متطرفون دينيون لا يتورطون في العنف ويبقى تطرفهم حالة فكرية محضا ، وهناك متطرفون سياسيون متورطون في العنف ولا صلة لهم بالدين أصلا ، ولن أضرب المثل هنا بالجرائم التي يرتكبها طغاة قتلة وحشيون علمانيون مثل بشار الأسد وهم أبعد ما يكونون عن الدين نفسه ، ولكن الجميع يتذكر كيف كانت المنظمات اليسارية تروع العالم كله قبل عدة عقود في أعمال القتل والاغتيال والتفجير وخطف الطائرات ، على خلفية تشدد سياسي لا وجود للدين فيه ولا يعرفون كتب سيد قطب ولا غيره . رحم الله العالم الجليل الشيخ نادر العمراني ، وخالص العزاء لأهله ومحبيه ، وللشعب الليبي ، الذي خسر قيمة علمية ودينية مستنيرة هو أحوج ما يكون إليها في تلك الأيام القاسية والفتن المظلمة .