الأهرام
عبد الجليل الشرنوبى
التنكيت فى زمن التفتيت !
(شيلوه من فوقى لأموته)، إنها النكتة الأكثر وجعاً فى تاريخ الابتسام المصري، لها روايات عدِة، يتعدد فيها الأبطال المنسحقون تحت وطأة البطش بألوان شتي، يجمعهم السقوط ضحايا، ويمنعهم الضعف المقاومة، ويُلجمهم الاحتياج فلا ينطقون إلا سخرية، وتُخِجلهم بقايا كبرياء فيتعاملون مع الانسحاق باعتباره مزاحاً ويقررون أن (يأخذوه بجميلة)؟.

فى النكتة القديمة، يتألم المواطن الخاضع لبطش المعتدي، وفى نكتة الواقع الجديدة يتألم الباطش من ثقل دم المجنى عليه، فهو مطالب بأن يتحمل كل مراحل البطش فى خشوع، وأن يتلذذ بطقوس الوجع فى خضوع، وأن يُثبت كلما تغيرت صنوف البطش إنه سعيد بالشرف الذى قرر الباطشون منح إياه باصطفائه ليكون مبطوشاً به! أنبتت هذه العقلية فى الإدارة نوعية من المواطنين، صاغهم الراحلان (أحمد رجب ومصطفى حسين) كاريكاتيراً نهاية تسعينيات القرن الماضي، يجسد مرءوساً مبطوشاً- يخاطب رئيسه -الباطش- قائلاً (إمبارح مراتى لما روحت سألتنى إيه البارفان الجميل اللى إنت حاطه ده، ما كانتش تعرف إن حضرتك تفيت فى وشي)!.

لم يسقط نظام حسنى مبارك لأن مؤامرات دبرت له، أو لأن أذرع حكمه لم تكن محكمة، أو لأن أمريكا رفعت الغطاء عنه، وإنما سقط حين لم يفهم أن المواطن المنسحق تحت ثقل الباطشين المتنامى لا يمكن أن يحمى استقرار حكم.

ولم يسقط الإخوان لأن دولة عميقة سعت لإسقاطهم، ولأن دولاً خارجية تآمرت على حكمهم، ولأن القوى السياسية كانت تكفر بمشروعهم، وتناصب مشروعهم الذى يدعى الإسلامية العداء، وإنما سقطوا حين ظنوا أنهم ورثوا نظام مبارك ليكونوا هم الباطشين الجدد، وليتحمل صدر المواطن ثقل وزن وظل الخارجين من كهوف التنظيم إلى صدارة مشهد ركوب الوطن وأهله.

ذهب كلا النظامين وبقى الشعب، يهتف تحت وطأة الانسحاق، (شيلوه من فوقى لأموته)، وكان للرئيس السيسى كلمة مشهورة يخاطب بها الشعب قائلاً (هذا الشعب لم يجد من يحنو عليه)، العلة معروفة وواضحة من البداية، (شعب يعانى من نقص فى الحنان). ولرسم صورة لهذا الشعب أستدعى مشاهد ثورتى الوطن (25 - 30)، حيث تقاطر الناس على الميادين يوم إعلان تنحى مبارك فبراير 2011، وساعة إعلان بيان 3 يوليو 2013م، وتتركز الصورة فى الضمير على (المواطن)، حيث الملامح خليط من مرض عقود عضال، ووجع سنين طوال، وجوع عصور أجدبها الفساد والإفساد، وجَهَلها استبداد تضافرت فيه جهود الرسمى المُحتكر للوطن، والتنظيمى- المؤمِمْ للدين.

إن المعنى هنا هو المواطن الذى خرج فرحاً بإزاحة الباطش من فوق صدره (قبل ما يموته)، باحثاً عن ذرات هواء وطنية يستنشق عبرها نسيم الآتي، أملاً فى وطن راعٍ يُستَأمن على القادم، دونما مساومات على أبسط أسباب الحياة.

وإذا كان المفوَض بالإدارة قبل أن يتولى رسمياً قد حدد العلة (هذا الشعب لم يجد من يحنو عليه)، يصبح على نسيج الإدارة كاملاً بعد التكليف استيعاب أسباب الداء، ومكامن الشقاء، حتى يمكن تجاوز كل تآمر على الاستقرار.

مضت أكثر من ثلاث سنوات على الثورة الثانية، وانقضى ما يزيد على عامين من عمر التكليف بالإدارة، وبات الواقع يفرض على صدور المواطنين جاثمين جددا، بعضهم مدفوع من قبل التنظيم الإخوانى ليُربِكَ وينهك.

لكن نوعاً آخر هو الأشد ثقلاً فى وطأته، والأعتى سحقاً فى طرقاته، وهو ذلك النابع من غياب الرؤية الوطنية الشاملة، وانقطاع الإيقاع الإدارى عن فلسفات إدارة الأزمات، وشيوع الفردية فى الإدارة والشخصنة فى التعامل حتى بين المؤسسات، وبالتالى بات خطاب الجزر المنعزلة هو السائد، وتتناسب طردياً العلاقة بين صدور المواطنين وبين خطاب الجزر المنعزلة، فكلما صدر خطاب جديد اتسعت دوائر الضغوط على صدور المواطنين، مخلفةً ما يمكن تسميته بالواقع المأزوم والذى بإضافة تهديدات التنظيم له يصبح واقعاً مأزوماً ومُهدَداً. وعندما ينضم إلى هذه الملامح (فوضى الإعلام المجتمعي) تضيق صدور الخلائق هاتفة (شيلوهم من فوقى لأموتهم).

وهنا يبرز السؤال المصيرى (لمصلحة من توسيع رقع الضغط على صدور الناس؟). ولنتمكن من الإجابة يجب على المكلف بالإدارة استيعاب كم الضغوط المتنوعة ما بين أحوال المصير، و أوضاع الحقوق، وأوضاع الإعلام، وزد على الجميع أوضاعا إقليمية يلفها الضباب حيث اتجهت.

إن هذا الواقع بمفرداته على كل ضغوطها، لا يمثل إلا حالة مخاض لقادم، صحيح إن هذا القادم طال انتظاره حتى بلغت قلوب الخلق الحناجر، وحقيقة الإيمان تقتضى التسليم بأنه (ليس لها من دون الله كاشفة)، ولكن للأسباب فى مقام الإدارة حساباتها، والعشم الشعبى فى قدرة الإدارة على المسير حقيقي، ولكن على كل من يضغط أن يستمع لصرخات محبيه حين يهتف مازحاً (شيلوه من فوقى لأموته). إنه التنبه المطلوب لفهم التنكيت فى زمن التآمر الساعى للتفتيت.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف