جمال سلطان
الإرهاب صناعة التطرف السياسي وليس الديني
مشكلة الحديث عن الإرهاب في العالم اليوم أنه لا يخضع للتقييم العلمي أو الموضوعي بقدر ما يخضع لعمليات توظيف للمصطلح في سياق صراعات فكرية أو سياسية بين الجماعات السياسية والأيديولوجية أو بين دول ودول أخرى أو بين نظم سياسية ومعارضيها ، وكل تلك الأطراف تكون لها عادة تفسير خاص للإرهاب وتصنيف للإرهابيين ليس بالضرورة يتفق مع ما يراه الآخرون ، وكان الدين والحركات الدينية هي أكثر ضحايا ذلك التلاعب بمفهوم الإرهاب وأسباب الإرهاب وجذور الإرهاب . يكاد يهيمن على الإعلام العربي والعالمي اليوم فكرة أن الإرهاب هو صناعة التطرف الديني ، وأن تجفيف منابع الدين أو التطرف الديني هو الطريق إلى مكافحة الإرهاب ومحاصرته ، والأمر صحيح قطعا أن بعضا من النشاطات الإرهابية تقوم بها منظمات دينية متطرفة ، هذا صحيح ، ولكن الصحيح أيضا أن الإرهاب تقوم به جماعات ومنظمات أخرى لا صلة لها بالدين ، بل هي منظمات شيوعية أو علمانية لا دينية أو لها طابع عنصري أو فاشي ، وهي الحقيقة التي تجعل حصر مولد الإرهاب على الدين أو التطرف الديني أو الفكر الديني هو خطأ علمي وتضليل معرفي ، ويصبح المنطق العلمي البحت أن الإرهاب هو صناعة التطرف السياسي ، سواء أتى من جماعات دينية أو شيوعية أو لا دينية أو عرقية ، وهناك جماعات شديدة التطرف دينيا أو شيوعيا أو لا دينيا أو عرقيا ولكنها لا تمارس العنف ولا تتورط في الإرهاب ، وبالمقابل هناك تطرف ديني أو شيوعي أو لا ديني أو عرقي يتخذ مبررا للإرهاب . في مصر ـ على سبيل المثال ـ كانت هناك جماعة دينية معروفة في الثمانينات الماضية باسم "الفرماوية" نسبة إلى مؤسسها محمد إسماعيل الفرماوي ، وكانت شديدة التطرف الديني وتكفر من يأخذ بالأسباب كأن يعمل طبيبا مثلا بوصفه متألها وينازع الله في أمره "وإذا مرضت فهو يشفين" وترفض العمل لأن الله هو الرزاق ، وترى العالم كله على ضلال باستثناء جماعتهم ، ومع ذلك كانت تلك الجماعة من أكثر الجماعات البشرية مسالمة ووداعة ، لدرجة أنهم يوشكون أن يكفروا من قتل فأرا أو بعوضة باعتبار أنه قتل نفسا بغير نفس ، حسب تصورهم ، فلم يكن تطرفهم الديني والتكفيري سببا لانخراطهم في الإرهاب أبدا طوال عشرات السنين ولم توجه إليهم أي تهمة من هذا القبيل ، وبالتوازي معهم كانت هناك جماعات دينية متطرفة تندفع في العنف وأعمال الإرهاب مثل تنظيم الجهاد الذي تزعمه محمد عبد السلام فرج ، والذي قام بعملية اغتيال الرئيس السادات ، والطريف في ذلك أن إيران احتفلت كثيرا بعملية اغتيال السادات واعتبرتها جهادا في سبيل الله وكرمت من قاموا بها واحتضنت قياداتها بعد ذلك في أراضيها بعد أن فروا من مصر وأفغانستان ، وأطلقت اسم منفذ العملية خالد الإسلامبولي على أحد شوارع العاصمة طهران ، لكن المفارقة أن إيران الآن تصم نفس أبناء تلك الجماعة بالإرهاب وتصفهم "بالتكفيريين" لأنهم يقاتلون مع ثوار سوريا ضد بشار الأسد ، فهم كانوا مجاهدين عندما اغتالوا السادات وحاربوا مبارك لكنهم إرهابيون عندما يحاربون بشار الأسد ، أي أن ميزان الإرهاب والجهاد ليس هو الفكرة والأدبيات والأيديولوجيا والسلوك ، وإنما مع مصالحي أو ضد مصالحي . الألفية الميلادية الثانية ، ومنذ مطلعها تعتبر العصر الذهبي للإرهاب المتصل بالتطرف الديني ، نظرا لظهور تنظيم القاعدة ثم داعش اللذين روعا العالم كله ، ولكن الناس تنسى أن العقدين اللذين سبقاه ، في فترة السبعينات والثمانينات الماضية ، كانت العصر الذهبي للإرهاب اليساري ، حيث عرف العالم منظمات متطرفة ودموية في ألمانيا وإيطاليا وأسبانيا واليابان وحتى بريطانيا ، مثل منظمة "بادر ماينهوف" ومنظمة الألوية الحمراء الإيطالية والجيش الأحمر الياباني وغيرها من المنظمات ، وكلها يسارية وأصولها ماركسية بالأساس ، وقامت بنفس العمليات التي قامت بها منظمات دينية بعد ذلك ، بل كانت المنظمات الدينية تستلهم خبرات تلك المنظمات اليسارية وتكتيكاتها ، من خطف سياسيين وإعدامهم واغتيالات وتفجيرات والهجوم على مصارف لنهبها لتغطية نفقات عمليات وخطف طائرات وغير ذلك ، وروعت عملياتها أوربا بصورة خطيرة ، ووصلت إلى حد نجاح الألوية الحمراء في اغتيال رئيس وزراء إيطاليا ألدو مورو في عملية شهيرة ، وبالتوازي مع تلك المنظمات اليسارية المتطرفة التي تمارس الإرهاب كجزء من مشروعها كانت هناك منظمات يسارية متطرفة أيضا لا تمارس العنف ولا تنخرط في الإرهاب وتتمسك بالنضال السياسي السلمي ، بما يعني أن الإرهاب لم يكن "فكرا" أو أيدلوجية ، بقدر ما كان تطرفا سياسيا استهوى قطاعا من الشباب المتمرد والمتحمس ، يريد أصحابه فرض إرادتهم وأهدافهم بالقوة والدم على الآخرين . وفي مصر لم ينتبه كثيرون إلى أن قطاعا من اليسار المصري انتهج العنف والإرهاب في الثمانينات بالتوازي مع العنف والإرهاب الذي مارسه قطاع من الإسلاميين ، فقد شكل مجموعة من الناصريين بزعامة محمود نور الدين تنظيما دمويا يهدف إلى استخدام السلاح والتخطيط العسكري لاغتيال واختطاف وتصفية شخصيات أمريكية وإسرائيلية من العاملين في مصر ، ونفذ بالفعل أكثر من عملية في القاهرة قبل أن تتمكن قوات الأمن من ضبط عناصره ، ولكن نظرا لقوة التيار الإسلامي وانتشاره واتساع عملياته في ذلك الوقت لم يتوقف كثيرون عند التكوين الفكري للتطرف الناصري الذي أوصل هؤلاء إلى اختيار العنف والإرهاب سبيلا لفرض موقفهم بالقوة ، وبالمقابل فهناك تيار ناصري واسع في مصر يرفض العنف والإرهاب ويعتبر أن النضال السياسي وحده هو المشروع وهو المجدي ، رغم أن كلا الطرفين يمتلكان نفس القاعدة الفكرية والأيدلوجية وتربوا على نفس الأدبيات والكتب والصحف والمجلات الناصرية في مصر ولبنان . حتى وصلنا إلى العملية الإجرامية التي حدثت في ليبيا هذا الشهر ، عندما قامت مجموعة دينية باختطاف العالم الجليل الشيخ نادر العمراني وحفرت له حفرة وأطلقت عليه الرصاص بغزارة ودفنته فيها ، معتبرة أن ذلك الفعل الهمجي الإرهابي جهادا في سبيل الله ، والمفارقة هنا أن تلك الجماعة الدينية التي فعلت ذلك هي جماعة سلفية معروف عنها أنها تحارب ما تسميه بالفكر القطبي الذي يحض على العنف والإرهاب ، وتشنع على الجماعات السلفية الأخرى باعتبارها تأسست على أفكار سيد قطب والمودودي التي تحرض على العنف والإرهاب والخروج على ولي الأمر ، فإذا بنفس هؤلاء يقومون بعملية إرهابية خطيرة في وحشيتها بتلك البساطة بناء على فتوى من شيخهم ، والمؤكد أنه ليس كل أتباع هذا الجناح السلفي المسمى "المدخلي" يختارون الإرهاب والعنف ، ولكننا أمام مجموعة منهم ، بنفس التربية ونفس الكتب والتكوين والأدبيات الفكرية والدينية التي تربوا عليها ومع ذلك انخرطوا في الإرهاب والعنف ، بما يعني أن الإرهاب يستحيل أن يكون مصدره هو محض الأدبيات الفكرية الدينية والكتب التي تربوا عليها ، وإنما هو التطرف السياسي الذي يدفع صاحبه إلى محاولة فرض آرائه ومصالحه الواقعية بالقوة والعنف ، والأمر نفسه معروف بداهة في القطاع الأوسع من الإسلاميين ، فهناك ملايين من المتدينين تربوا على كتابات الشيخ سيد قطب ومع ذلك يهاجمون ويتصدون للمتطرفين الذين يستخدمون فكره لتبرير الإرهاب ، كما أن هناك ملايين ممن تبروا على تراث ابن تيمية والشيخ محمد بن عبد الوهاب وهم أنفسهم الذين يتصدون ويواجهون المتطرفين الذين يستخدمون تراث الشيخين لتبرير العنف والإرهاب . وفي المحصلة ، فالإرهاب هو تطرف سياسي ، تصنعه أجواء سياسية مضطربة وصاخبة تشعر بعض الجماعات البشرية بالظلم أو التهميش وتلهب خيالهم بإمكانية انتزاع ما يعتبرونه مشروعا لهم بالقوة وممارسة الإرهاب ، وسواء كانت تلك الجماعات البشرية دينية أو شيوعية أو علمانية ، فلن يصعب عليها كثيرا أن تصطنع مبررا فكريا لاتجاهها إلى العنف والإرهاب ، سواء من تراث ديني أو تراث شيوعي أو علماني فاشي أو عنصري تعيد تفسيره بما يبرر لها سلوكها الدموي ، وأما محاولة إلصاق الإرهاب بالفكر الديني أو بكتب دينية قديمة أو حديثة ، فهو هراء ، وجهل معرفي ، وانتهازية سياسية وايديولوجية تبتز المشاعر الإنسانية التي يفزعها الإرهاب الحالي وتوظفها لتشويه خصومها الفكريين أو السياسيين .