البديل
مايكل عادل
نَظَر
اعتدت السير في هذا الشارع من حين إلى آخر. ولكن في تلك الأيام من كل عام تحملني أقدامي نحوه دون قرار أو تدخل من إرادتي.
سماء الليل السوداء وأعين الملائكة المُطلّة على حسني النوايا من خلف النجوم. النسمات الأولى للشتاء، السحب المترددة بين احتضان كوننا العجوز وإحكام القبضة حول عنقه. أصوات السيارات تختفي تدريجياً حتى لا يبقى منها إلا أصداء تتلاحم مع أصداء أخرى كأصوات من زمن آخر أبت أن تندثر بين دفاتر الأرشيف وملفات الماضي المغلقة. أصوات هي أيضاً لمحرّكات ومواتير ولكنها ليست سيارات، هي لموتوسيكلات صينيّة الصناعة يمتطيها شباب يجمعهم شبه ما ويجمعني بهم كل شيء. أصوات ارتطام ورنين آتية من عواميد الإنارة في الميدان الواسع الذي يفضي إليه ذلك الشارع العتيق. أصداء لأصوات بشرية صارخة تأتي من كل الاتجاهات “ثابت – اقف مكانك – ماحدش يجري – وسع للموتوسيكلات – وسع سكة” وصرخات أكاد أميّزها نظراً لالتصاقها بالذاكرة. قبضة القلب ونشوة اللمّة، “فيه أمل؟”، الليلة طويلة ويجب أن نحافظ على حقنا في الوجود أولاً، وحقنا في الوجود هنا أولاً وأخيراً. مغادرة الميدان تعني موت الثورة، وماذا تعني عدم المغادرة إذن؟ أستُبعث الثورة من جديد إن بقينا في أماكننا؟ إذن فلنبقى لمائة عام أخرى فقد وجد بعصنا الآخر أخيراً.
ماذا تريدون؟ ماذا يريدون؟ ماذا نريد؟ نريد أن تنتصر ثورتنا وأن لا يتوقف ذلك الانتصار عند رحيل الظالم الأعلى. ما هي مطالبكم؟ ما هي مطالبهم؟ ما هي مطالبنا؟ نرفع أصواتنا بأننا قد اكتشفنا الملعوب، الملاعين اتفقوا مع ملاعين آخرين على وأد ثورتنا وبدأوا في حصد أصدقائنا خلف القضبان. فليرحلوا جميعاً وليأتي لنا شخص نصدقه ونتمكن من الحديث معه دون مراوغة وتلاعب. حتى حق التظاهر قابلوه بالعنف واتهمنا أصدقائهم الجدد بالبلطجة! وصل الأمر إلى ذلك؟
لقد وجدت نفسي هناك أخيراً، من ذاك الذي يريد أن يتحكم في مصير كل هؤلاء الحالمين؟ من هو؟ قلبي ينقبض في تلك الليلة وأنا أعلم جيداً أن ذلك الشعور سيتبعه حدث مؤسف كالعادة. العديد منهم يتراجع! ما بالكم؟ ماذا أصابك يا أخ؟ الدماء تتفجّر من الوجوه والأعين تتحوّل إلى تجويف دامٍ تنسكب منه الدماء بلا حساب. سيموت حتماً إن لم يعش كفيفاً مدى حياته! ونحن أيضاً سنموت، سنموت عجائز في فراشنا بعد خمسة عقود أم سنموت شباباً على أرض هذا الشارع الذي لا نستطيع بلوغ نهايته. ذلك النفق المعتم الذي لا يمكننا رؤية نقطة النور في آخره، البندقية ذات الماسورة الطويلة التي عجزنا عن بلوغ فوهتها، فوّهتها التي أغرقتنا بالعمى والموت والنحيب. “ماحلى القصايد في الشدايد والغُنا.. ماحلى العيدان الخُضر في الرَبع الخراب.. إحنا اللي تهنا عالطريق من بعضنا.. متجمّعين بنخُط صفحة في الكتاب”.
صدري مغلق تماماً. لست قادراً على إدخال الهواء أو إخراجه، قلبي يكاد يقفز من بين أضلعي وهذا صديقي يقابلنا بسيجارة يشعلها ويدسها في فمي! أضحك فأسعل فأفيق على البلاط في مكتب محمد هاشم بينما يحقنني أحدهم لأتمكن من التنفس. مطالبنا هي الحياة وهم يلاحقوننا بالموت ويحاصروننا به من كافة الاتجاهات حتى وجدنا أنفسنا بلا اختيار سوى مواصلة الطريق إلى الحياة، يبقى الشارع شاهداً وأعين الشهداء تراقبنا من خلف النجوم والشمس تنتظر الصباح كي تضيء السماء السوداء وتكسر برودة الشتاء القاسية. “ملعونة ساعة تتحسب م العُمر يطويها الخنوع.. ملعونة لقمة مغمسة بالذل… ملعون الجبان”.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف