المساء
محمد جبريل
مصر التي نعرفها
المصري اجتماعي بطبعه. يكره الانطواء. ويحب الجماعة. و"الونس" تعبير مصري. يعني المشاركة والمودة. والطبيعة الطيبة. الودود المتسامحة. للشعب المصري. والألفة السريعة للآخرين. تتبدي في وسائل المواصلات العامة. وفي أماكن التجمعات. الحديث ينشأ بينك وبين جارك في القطار. أو الأوتوبيس أو المقهي أو عيادة الطبيب دون سابق معرفة. وببساطة. كأن المعرفة قديمة. وربما امتد الحديث الي أدق شئوننا الخاصة. وقد ينتهي الحديث بنشوء صداقة. أو تظل كما هي صداقة قطار كما يقول المثل الشعبي. وفي عودة الروح لتوفيق الحكيم جلس محسن في عربة القطار. والتفت الي من معه من المسافرين. فإذا هم عديدون ما بين معمم ومطربش. وقد امتلأ بهم الديوان. وكانوا لحظتها ساكنين. غير أنهم كانوا يترامقون. كأنهم لا يطيقون الصمت والعزلة. ويقولون لإغراء أحدهم بالكلام "تفضل يا حضرة.. كلنا مسلمين نساع بعضنا". والمعني ـ بالطبع ـ هو أننا جميعا مصريون. وقد عبر راكب آخر عما حدث بأنه يعلن "عواطف الارتباط والتضامن القلبي بين أهل مصر". ويتحدث راكب عن مشاهداته في أوروبا. وأن كل فرد هناك يحيا في ذاته. دون أن يعنيه شأن الآخرين. فيقول شيخ: بلاد ما فيهاش إسلام! ويبدو الضيق علي وجه الراكب "الأفندي". ويلحظ راكب آخر معمم علامة الصليب. فيقول مستدركا: قصدك يا سي الشيخ بلاد ما فيهاش قلوب. مش زي بلدنا سواء أقباط أو مسلمين. كلنا إخوان. ويتدخل صوت مثقف يؤكد أن كلمة "إسلام" التي يشيع استعمالها. وترديدها. في مصر بين بعض الأوساط. ليس لها في الحقيقة أية صبغة دينية أو طائفية. وانما هي تعبير عن التواصل المصري الانساني.
ولاشك أن العجز عن توفير القوت الضروري. وتوقع الامتناع الدائم من سائق التاكسي. والوقوف الممل في طابور الجمعية الاستهلاكي. الخ. ورفض ـ وربما افتقاد ـ موهبة زيادة الدخل بوسائل غير شريفة.. ذلك كله لابد أن يدفع الي النفس مشاعر سلبية كالاحباط والأسي والمرارة. قد يبلغ مداه. فيشعر المرء باللا انتماء: هذه ليست مصر التي يعرفها. وهؤلاء ليسوا أهله وناسه. ليست الإخوة والقرابة والصحبة والأصدقاء والتكافل. يضنيه الشعور بالغربة. تشقيه "العدوانية" التي تبين عن نفسها في كل لحظة. حتي لو اصطدمت بجاري في الأوتوبيس ـ عفواً ـ فانك لن تسلم من دفعة ساخطة. أو شتمة بذيئة!. ولعله من السهل أن نتعرف الي بعض معاناة الانسان المصري. في جري المتسابقين وراء أوتوبيس النقل العام وهو يدخل محطته الرئيسية. السائق يزيد من سرعته. والركاب يجرون وراءه. ويقفزون. ويتدافعون للحصول علي كرسي أو موضع يقفون فيه. يغيب الوعي والاحساس بالجماعة. يشغل كل واحد أن يصعد الي الأتوبيس. ويجد مكانا فيه. لا يعنيه إن أوقع المرأة أو داس طفلا. المثل يقول: إن جالك الطوفان حط ولدك تحت رجليك!. وركوب الأوتوبيس هو بديل الطوفان.
واللافت أن القيم الايجابية تظهر في وقتها. كما أن القيم السلبية تظهر في وقتها: فالمصري الذي واجه هزيمة ساحقة في يونيو 1967. هو المصري الذي حقق انتصار أكتوبر .1973 الفارق في الحالين انه كان في أيام الهزيمة يحيا قيما سلبية. كالخنوع والضعف والاستسلام. بينما كانت قد تحركت في أيام الانتصار قيم الشجاعة والإصرار والتحدي. فاستطاع الانسان نفسه ـ الذي قدر خبراء عالميون أنه لن يستعيد "عسكريته" قبل ألف عام! ـ أن يعبر القناة. ويطرد القوات الاسرائيلية المتمركزة وراء خط بارليف. ويطهر المخابيء والملاجيء. ويتهيأ لاستعادة سيناء المحتلة كلها.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف