د . جمال المنشاوى
الرسائل الخفية والعلنية.. في الحكم بحبس نقيب الصحافة المصرية !
كان الكاتب الكبير جلال الحمامصي - رحمه الله- يقول أثناء تدريسه لشباب الصحافيين (لو عض كلبُ رجلاً فهذا ليس بخبر.. لكن لو عض رجلُ كلباً كان هذا هو الخبر الذي بسعي إليه الصحافي !), وهذه قاعدة معلومة في علم الصحافة والإعلام, ولذا كان خبر سجن صحافي من أجل الرأي يستحق المتابعة, لكن أن يتم الحكم بحبس نقيب الصحافيين فهذا خبر الأخبار, وهو ما حدث مع نقيب الصحافيين المصريين يحيي قلاش وإثنين من أعضاء مجلس النقابة جمال عبد الرحيم وخالد البلشي بتهمة إيواء إثنين صحافيين اعتصموا بالنقابة, وقالت أجهزة الأمن أنهم مطلوبين للعدالة, وعودُ علي بدء فإن الأستاذ الحمامصي كان من أوائل المهددين بالحبس أثناء حكم السادات لطرحه قضية فساد بالغة الأهمية وقتها, نشرها في عموده اليومي بجريدة الأخبار(دخان في الهواء), وهو ما لم يرتح له السادات والذي كانت نبتة الفساد تنمو في عهده وتحت رعايته وبلغت أوجها بمحاكمة شقيقه عصمت ورشاد عثمان في القضية الشهيرة, ثم جاء مبارك وحاول حبس إبراهيم عيسي والذي كان قد بلغ الذروة والمنتهي في نقد مبارك وأركان نظامه, لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة حتى لا تكون سابقة, تدفع مصر ثمنها في المحافل الدولية والمنظمات العالمية, وهذا فارقُ كبير بين من كانوا يقفون وراء مبارك من السياسيين المخضرمين مثل أسامه الباز ومصطفي الفقي وغيرهم, الذين يقدرون العواقب السياسية للقرارات وتأثيرها, وكان مبارك يستجيب لهم, بخلاف الذين يقفون الآن وراء السيسي أو من يهمسون في أذنه ليشكلوا له القرارات, وهم في حقيقة الأمر ليسوا خلية عمل بل خلية أزمات, حيث يفتقدون تماماً للخيال والحس السياسي, علي الرغم من عدم معرفتهم علي وجه التحديد بأشخاصهم, فلا يعلم أحد من هو المستشار السياسي للسيسي, ومن وراء اتخاذ هذا الكم الهائل من القرارات العشوائية, المسببة للكثير من المشاكل الداخلية والخارجية, والسيسي الذي جاء من جهاز المخابرات العسكرية, ثم انتقل وزيراً للدفاع وهو عملُ عسكري, ثم رئيساً للجمهورية وهو منصب سياسي بامتياز, إذن لم يمر بفترة انتقالية, كعبد الناصر الذي ظل نائباُ لنجيب ثم كان إلي جواره محمود فوزي ومحمود رياض, والسادات الذي ظل نائباً لعبد الناصر, ومبارك الذي كان نائباً للسادات ثم جعل أسامه الباز في ظهره ومصطفي الفقي من أمامه ومعهم إسماعيل فهمي وزير الخارجية, وهنا نعود لمربط الفرس خلية صنع الأزمات المُحيطة بالسيسي لم يكفها خلق الأزمات مع نقابة المحامين ثم المهندسين وتلاها ألأطباء وختمت بالصحافيين, الذين كانت أزمتهم هي الأضخم والأعلى صوتاً والتي بدأت بلجوء إثنين من الصحافيين للاعتصام بالنقابة وهو أمر حدث قبل ذلك مع الصحافي عبد الجليل الشرنوبي رئيس موقع "إخوان أون لاين" السابق, وكان هذا في عهد مكرم محمد أحمد, ثم تلاه اقتحام الأمن للنقابة في سابقه لم تحدث من قبل, ثم توجيه التهمة لمجلس النقابة بإيواء مطلوبين للعدالة, ثم تقديم النقيب يحيي قلاش وعبد الرحيم والبلشي للمحاكمة, ثم الحكم بحبسهم سنتين, والقضاء هنا يحكم بالأوراق التي أمامه, وتسلسلها كالتالي تهمة من أجهزة الأمن, فصحة واقعة عن طريق التحريات, فيحكم القاضي بالأوراق دون نظر للأمور السياسية, لأن هذا ليس عمله, لكنه عمل السياسيين الذين من المفروض أن ينزعوا فتيل الأزمات قبل وقوعها, لكنهم للأسف يفجرونها في وجه الجميع لافتقادهم الحس والخيال السياسي كما قلنا, لكنني أعتقد تماماً وأقول جازماً إن نظام السيسي يتعمد ذلك لإرسال رسائل تخويف لكل طبقات المجتمع ومثقفيه, فبدأها بالمحامين فالمهندسين فالأطباء فالصحافيين, والإعلاميين فمنع باسم يوسف وريم ماجد ورانيا بدوي وطرد ليليان داود بملابس البيت, وأوقف محمود سعد ويوسف الحسيني وهجّر يسري فوده, وقام بشراء كثير من القنوات الفضائية الخاصة ووجهها لتقول ما يريد, فالرسائل كلها تصب في هذا الإطار, الدولة الديكتاتورية التي لا ينطق فيها أحد, ولا كرامة فيها لمخالف أو معارض حتى وإن تُرِك لفترة, ولا عبرة فيها لأي إنسان مهما بلغ قدره ومنصبه, وهو تفكير مخيف ومدمر لصاحبه وللوطن, والتجارب أثبتت ذلك وأخرها تجربة مبارك نفسه, ولا يقدر هؤلاء أو لا يعرفوا قيمة الصحافة بالخارج والحرية المطلقة التي تعيشها, حيث يعتبرونها السلطة الرابعة المُضافة للسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية, والتي أسقطت بقوتها رئيس أكبر دولة في العالم نيكسون لتجسسه علي الحزب المُعارِض, وهذا الحكم يضع النظام في موقف محرج أمام العالم, ورئيس النظام السيسي في زيارة للبرتغال وكأنهم يتعمدون إحراجه وإضعاف موقفه, كما فعلوا قبل زيارته لأمريكا بإيقافهم لتراخيص منظمات المجتمع المدني ومنع بعض قادتها من السفر, وكما فعلوا في قضية تيران وصنافير بصدمتهم للمجتمع بين عشية وضحاها وإعلانهم أن الجزيرتين سعوديتان, في اتفاق رباعي بين مصر وإسرائيل والسعودية وأمريكا, الرسائل كلها مخيفة ومفزعة, فالحكم القضائي كان يمكن تجنبه من البداية بحل سياسي للأزمة, ودون صدام مع سلطة لها كيانها وقيمتها ودورها الفعال في العالم أجمع ناهيك عن منظماتها الدولية التي لن تسكت, وستزيد من أزمات البلاد المستفحلة فعلاً, الدببة التي تقتل أصحابها وهي تريد إنقاذهم يجب انسحابهم من المشهد, وتواريهم عن الأنظار, فقد شبِع الناس وتشبعوا من هذا الأداء الهزيل من هؤلاء المستشارين الذين لا يعرفهم أحد, وتكاد لا تحس منهم أحدا أو تسمع لهم ركزا. كاتب وباحث مصري