توحش الغلاء وأصبح لا طاقة لنا به، نحن نعيش أعلى تجليات سعار الأسعار ونيرانها المتقدة، وبالتالى تأتى دعوات المقاطعة لإعلان موقف، والمؤكد أن المقاطعة ثقافة جيدة ولكنها ليست حلاً فورياً أو جذرياً وإن كانت موقفاً يخلق حالة واتجاهاً ووعياً لدى الشعب يعلن به المواطن الرفض والاستعلاء على الغلاء، ولكن الأهم من المقاطعة الترشيد والإنتاج والعمل والعودة للثقافة المصرية الطبيعية ما قبل السبعينات.
وإذا كنا نلوم على الحكومات المصرية المتعاقبة فعلينا الاعتراف بأنها أحياناً عقاب لنا بسبب غياب التخطيط وانعدام علم إدارة الأزمات وإهدار النفقات، فالشعب مثلها، فالحكومات تشبهنا ونحن نشبهها، فلا نمتلك خططاً لإدارة الحياة اقتصادياً، وتم إحلال ثقافة الاستهلاك بدلاً من ثقافة التوفير والإنتاج بصرف النظر عن دخل الفرد إذا كان ألف جنيه أو مليوناً.
كان المجتمع فى اتساق على استقامته قبل التحول إلى مجتمع استهلاكى غير منتج، كان مجتمعاً يعرف إمكانياته، وكانت فكرة الترف غير مطروحة إلا فى نطاق ضيق، أما الآن ففكرة الترف حاضرة حتى لمن لا يملك إلا الإمكانيات البسيطة، وأصبحنا أسرى المظاهر، الشعب أغلبه معدم أو على حافة الستر، ولكنه مغرم بالمظاهر وكأن الحياة لا تستقيم إلا بالمظاهر الكاذبة.
نحن نقلد المجتمعات المتطورة وأحوالنا متدهورة وكأنها مؤامرة علينا دفعت الناس منذ منتصف السبعينات فى السير باتجاه الترف وأفاقت على غياب الثوابت الأساسية للحياة.
فى وقت ما كان المجتمع المصرى مجتمع ادخار، وكانت هذه الكلمة ثقافة ومرحلة فى حياة المصريين، فكان هناك بنك الادخار ودفتر التوفير وتوزيع «الحصالة» على الأطفال لتعليم الادخار، أما الآن فقد غربت شمس هذه الثقافة وأحرقتنا ثقافة الاستهلاك والسفه وتقليد ترف ورفاهية لا تشبهنا، واستحداث ثقافة وسلوكيات جديدة تعلن تغييراً كاملاً لمنظومة الأخلاق والأفكار.
لا بد من العودة إلى الادخار والإنتاج، مع بدايات السبعينات تحولنا من مجتمع ينتج ما يكفيه لمجتمع ينتج أشياء تجارية لم تغير حياته إلى الأفضل، بل جعلته فى عوز وفى مرض، لا بد أن تكون هناك ثورة فى السياسة الزراعية، فنحن لا ننتج ما نأكله، نحن ننتج ما يمكن الاستغناء عنه، لقد كنا نزرع القمح والقطن والفول والذرة والقصب وكنا نصدرها أيضاً، فالأرض المصرية مؤهلة لهذه الزراعات ولكنها تراجعت وأصبحت على الهامش حتى أنواع الخضراوات والفاكهة، فأغلب الأراضى الآن ما يُزرع فيها لا يناسب تربتها، وبالتالى أصبحت هناك «الصوبات»، وما نزرعه لم يغير حياة الفلاح إلى الأفضل ولم يغير الاقتصاد، على العكس تماماً فقد دخلت الأمراض لأن المعالجات الخاصة لهذه الزراعات كيميائياً كلفتنا أضراراً صحية رهيبة وفاتورة علاج باهظة.
العبث أن الفول والعدس الذى يمثل الهوية المصرية أصبحنا نستورده، لا بد أن تفيق الحكومة وتتنبه لضرورة العودة إلى زراعة ما يمثل الأمن القومى المصرى، القمح والفول والعدس والقصب وتشجيع الفلاح على ذلك وتسهيل مهمته مهما تكلفت الدولة فهى من سيجنى المكسب على المدى المتوسط والبعيد.
مصر التى كانت تنتج السكر أصبحت لديها أزمة سكر، إننا نفتقد الوعى وثقافة الترشيد فى أبسط التفاصيل فى التعامل مع المياه أو الكهرباء إلى نمط الحياة وتخزين الطعام.
فلننظر إلى ما نفعل عندما نحضر حفلات أو احتفالات بها «بوفيه مفتوح»، ولننظر إلى المياه المهدرة بسبب تعود البعض على إبقاء المياه جارية أو بسبب غياب ثقافة الصيانة للحنفيات، وبالتالى فأغلبها يحتاج إلى تغيير، ولننظر إلى الإنارة فى أغلب الشوارع فى عز النهار، وهناك دراسة تؤكد أن مصر تمتلك عشرة ملايين غلاية للشاى تستهلك كل واحدة منها ما يوازى استهلاك جهاز تكييف قدرته 3 حصان.
أغلبنا يفتقد الوعى فى التعامل مع كل التفاصيل رغم أن التفاصيل الصغيرة تصنع فارقاً كبيراً.
الدولة عليها فتح مسارات جديدة وإشاعة ثقافة الادخار والقيام بثورة زراعية للعودة إلى إنتاج ما يكفينا، والمواطن عليه أن يختار إما كسر الاعتياد على ثقافة الاستهلاك وإما الانكسار أمام الغلاء..