على وشوش البشر تجد صورة للوضع والظرف الذى يحيونه. والناظر إلى وجوه أكثر المصريين هذه الأيام يشعر بأنهم ليسوا فى حالتهم الطبيعية. ثمة سحابة ثقيلة من الحزن تظلل الوجوه، أعصاب منفلتة، غضب لأتفه الأسباب، نوع من التشاؤم عند النظر إلى المستقبل، حالة من التربص فى علاقة الناس بعضهم بعضاً. يقول البعض إن الأزمة الاقتصادية هى السبب، ربما كان ذلك كذلك، فعندما تضيق الأحوال تضيق معها النفوس. لعل هذه الأحوال تحفز المصريين على البحث عن أسباب وصولهم إلى تلك الحال، وتدفعهم إلى البحث عن مخرج.
دعنى أجتهد فى الإجابة على سؤال أجده مهماً.. هل تراجع خلق الرحمة سبب من أسباب الحالة التى تسيطر على كثيرين منا؟. نحن -كما يقال- شعب عاطفى، والرحمة سمة من سمات الشخصية العاطفية، لكننى أجد أن البعض لم يعد يتمسك -كما كان الحال فى الماضى- بهذه السمة. رحمة البشر بعضهم بعضاً هى التى تؤدى إلى نظر الله إليهم بعين رحمته. وفى الأثر: «ارحموا من فى الأرض يرحمكم من فى السماء». وقد تخلى الكثيرون عن رحمتهم خلال السنوات الماضية، وأصبح لسان حال البعض: «إما أنا أو الطوفان»، ودعتهم «أنويتهم» تلك إلى عدم الاكتراث بأحزان الآخرين. من بين هذا الشعب من كان يبتهج لمنظر دماء خصومه، ومن كان يفرح لظلم من يختلف معهم، ومن يسعد بالأخبار التى تعبر عن انهيار الحال وتردى الأوضاع، ويجدها فرصة مواتية لجلد الناس على زهدهم فيه. كل هذه الممارسات تعبر عن حالة التشوه التى أصابت النفوس، ظهرت انعكاساتها على وجوههم، فما تكتنزه القلوب تترجمه خرائط الوجوه.
الكل خاض هذه التجربة بنسبة أو بأخرى، وكانت النتيجة أن بدأت حياة الناس تتسمم، بل قل إن كثيرين أصبح لديهم غرام بتسميم حياة بعضهم بعضاً. وهذا الأمر خطر لو تعلمون عظيم، فالشعوب التى خاضت تجارب مماثلة انتهى بها الأمر إلى ما لا تحمد عقباه، وألقت بهم فى محن عميقة الأغوار. والمفترض أن المصريين ليسوا كغيرهم من الشعوب. إنهم أبناء حضارة تضرب بجذورها فى أعماق التاريخ. حضارة أصلها السمو الروحى، فأكثر ما شغل المصريين فى دنياهم هو آخرتهم، وهو ما دفع بعض السطحيين إلى اتهام الحضارة المصرية بأنها حضارة قبور، دون أن يدركوا معنى السمو الروحى الذى ميز هذه الحضارة، وجعلها حضارة بناء، وليس هدم أو تدمير الحياة، فالروح السامية تتبنى رؤية بناءة للحياة، ولعل ذلك ما يفسر لك كيف سما الفراعنة بدنياهم، بنفس القدر الذى انشغلوا فيه بأمرهم بعد مغادرة الحياة.
لا بد أن يحسم المصرى أمره، فإما التعايش.. وإما التغيير.. التعايش يعنى أن يسعى المواطن إلى استيعاب الأشخاص والأحوال التى تؤرقه، وتفهم أنها نتاج أداء لا يتعلق فقط بالحكومات، بل بسلوك الناس أيضاً، وأن بداية الحل لا بد أن تكون من عند المواطن الذى يجب عليه أن يغير ما بنفسه حتى يتغير الواقع الذى يعيش فيه، أما التغيير فيعنى أن يجد المواطن أنه يستحق وضعاً أفضل مما هو فيه، وأنه ليس ضالعاً فى تردى الأحوال، وبالتالى فعليه تغييرها.. الاختيار فريضة.. أما التمييع فى المواقف، فسيزيد الطين بلولة..!.