الجمهورية
يسرى السيد
محفوظ الأنصاري كاتب بدرجة سفير!!
لا أعرف لماذا ينتابني الحنين اليهم والي زمن جمعني بهم؟.. بعضهم رحلوا وبعضهم مازالوا بيننا. لكنه الزمن المحبوس داخلنا ببعض تفاصيله.. يزورنا ونزوره. بمبرر احيانا أو بدون مبرر.. ويبدو ان الحنين للماضي باحداثه وشخوصه هو العلاج السحري لواقع نرفض الانخراط في بعض فصوله احيانا.. حكايات واشخاص في بلاط صاحبة الجلاله وخارجها.. لا أ عرف لماذا تزوروني الاحداث بابطالها احيانا وفي احايان اخري ازورها رغما عني.. احتماء بهم أو لجوءاً عاطفياً اليهم أو استشارة لهم. حتي لو لم يكن لسانهم ينبض بالحياة.. في هذا المقال وجدتني مع الاستاذ محفوظ الانصاري.. فضلت ان ابحر اليه بعيدا عن التليفون أو اللقاء في مكتبه الذي لايبتعد عني كثيرا لكنها غربة وسط القاهرة.. سافرت اليه لنحو 30 عاما..
هو سفير بدرجة كاتب أو كاتب بدرجة سفير.. استنشقت رائحة "السيجار" الكوبي لأول مرة منه وانا جالس بجواره أو امامه..كنت استمتع بمتابعته وهو يزيل البلاستيك الشفاف عنه ثم يشعله بعود كبريت من علبة تصبح مثل العلب القادمة من الاساطير بعد ان يلمسها بيده.. كنت انظر باستهزاء وسخرية ممن حاولوا تقليده.. كان للسيجار في يده منظر لايقترب منه الا "السيجار" في يد الاستاذ محمد حسنين هيكل.. كنت انظر الي كتابات الاستاذ محفوظ مع كاتبنا الكبير مكرم محمد احمد باعتبارها كتابة تجمل وجه نظام مبارك.. لماذا؟.. لانها كتابة تدعو المختلفين مع نظام مبارك الي احترامها رغم الاختلاف مع بعضها بعكس الكتابات التي تشم رائحتها من ورق الجريدة من بعد من كثرة البذاءات الي تمتلأ بها.. ومع ذلك اذكر للاستاذ محفوظ الانصاري الكثير من كتاباته المنتقدة ضد توجهات نظام مبارك وهو رئيس لتحرير جريدة الجمهورية.. اذكر مثلا انه كتب عدة مقالات ضد بيع القطاع العام في عز جبروت الخصخصة.. كنت استمتع ومازلت بتحليلاته السياسية الراقية والعميقة عن القضايا العربية والدولية.. اسلوبه ينفرد به ويتميز.. وقلما تجد من يجمع بين الرؤية والعمق والمعلومات والاسلوب السهل الممتنع..لكن الذي يحز في نفسي ان البعض منا من ابناء الجمهورية من الاجيال التي تسبقني حين يؤرخون لفترات ازدهار الجمهورية يتناسون عن قصد وعمد أو أو استسهالا بترديد مقولات قد تبدو في ظاهرها صحيحة لكن مضمونها قد اختلف معها.. مثلا الكل أو الغالبية تذكر ان الاستاذ محسن محمد هو الذي ارتفع بمعدل توزيع الجمهورية الي نحو المليون نسخة في العدد الاسبوعي ونحو 750 ألفا الي 800 الف للعدد اليومي.. ورغم اختلافي اليقيني في ذلك يبقي السؤال الذي اطرحه وادعو كل الاساتذة الزملاء لمناقشته بموضوعية.. هل هذه حقيقة لا تحتمل الجدل واللبس ام العكس هو الصحيح؟.. واعتقد ان الاجابة واضحة وضوح الشمس اذا عدنا الي ارقام التوزيع في هذه الفترة.. والارقام لا تكذب اذا ما اقترنت بتاريخ الاصدار المصاحب للاستاذين محسن محمد ومحفوظ الانصاري.. لكن المهم ايضا ان نسأل: هل كانت زيادة التوزيع في عهد الاستاذ محسن محمد اذا صحت مرتبطة بزيادة التأثير؟.. اعتقد ان معدل التوزيع اذا كان قد بدأ في الصعود بفضل توجيهات محسن محمد الشعبوية فان التأثير قد اصبح كبيرا وعميقا في الساحة الصحفية والسياسية في عهد محفوظ الانصاري بعد ان منحها العمق والسخونة والحيوية..
والسؤال لماذا تتطرق الذاكرة الي هذه القضية بعيدا عن الاشخاص؟.. لا أعرف.. قد يكون لاعادة حق لصاحبه وقد يكون درسا وتجربة صالحة للتكرار في جرائد ومؤسسات بل ودول.. لان مصر كبلد مثل الجمهورية كجريدة.. وأي هيئة أو مؤسسة مثل الجمهورية تملك مقومات ضعفها مثلما تملك مقومات قوتها واختلاف الزمن قد ينعكس في شكل هذه المقومات أوقوتها. فالذي كان مصدر قوة من قبل قد تتضاءل قوته الآن والعكس صحيح.. والفيصل هنا هو الخيال. فالذي يفرق ويميز قائداً عن آخر قدرته علي الخيال أولا ثم القدرة علي ترجمة الحلم والخيال إلي ادوات علي أرض الواقع..
مثلا اعتقد ان القدرة علي الحلم والخيال هي التي ميزت محمد علي عن سابقيه حين رأي في مصر ما لم يره من قبله..وكذلك فعل الزعيم جمال عبد الناصر حين انتقل بمصر لمرتبة مختلفة و بشكل غير مسبوق منذ عصر محمد علي.. وحتي الرئيس السادات الذي كنت اذوب عشقا فيه اختلفت معه وانا مازلت طالبا بالاعدادية وهربت كسوفا من مواجهة مدرس اللغة العربية "الناصري" حين قام السادات بزيارة القدس ومن يومها انشرخت صورته داخلي.. وبعيدا عن المواقف السياسية كان السادات صاحب خيال حين رأي مالا يمكن ان نراه أو نتصوره بدءاً من قرار العبور حتي اتفاقية كامب ديفيد مرورا باحياء الحياة الحزبية التي ماتت في عهد عبد الناصر وكانت من اكبر الماخذ علي عصره!
اعود للاستاذ محفوظ الانصاري واتذكر بعض المواقف التي جعلتني اقف مشدوها ومعجبا به في آن واحد.. كنا في منتصف الثمانينات وكان رؤساء التحرير في الصحف القومية آنذاك انصاف آلهة. لايقترب منهم احد الا بقدر والبعض منهم كان لا يراه الصحفيون الا في المناسبات أو علي شرائط الفيديو آنذاك !!.. وكان البعض الآخر يدعو بعض الصحفيين ربهم بالا يقعوا في طريقهم ابدا حتي لا يواجهوا ما لايحمد عقباه.. لكن الاستاذ محفوظ كان شيئا مختلفا!!
اذكر انني كنت اصغر من انضم لاسرة العدد الاسبوعي عام 1987 ووجدته يدعونني ذات يوم لحضور حوار العدد الاسبوعي للجمهورية الذي يستضيف كل نجوم الفكر والسياسة والعلم والصناعة..الخ ..كنت اجلس علي طرف مائدة الحوار المزدحمة باسماء وقامات مثل الاساتذة محمد ابو الحديد وجلال السيد وبدوي محمود وحسن عامر وسعد هجرس وسامي الرزاز وبهي الدين حسن ومحمود نافع وجمال كمال وسمية عبد الرازق وسمية احمد وزينات ابراهيم..الخ.. كنت اصغر الموجودين وبطبيعة الحال كنت أتلقي بعض "اللكمات" الصديقة أو "الاكتاف" القانونية لازاحتي مثلما يحدث مع اي وافد جديد. لكنه كان يحنو هو والاستاذ محمد ابو الحديد علي شخصي الضعيف ويواجهان عني هذه النيران الصديقة.. كان الاستاذ محفوظ يضعني في قلب المشهد حين يسمح لي بطرح اسئلتي أو بكتابة اسمي بنفس البنط الذي يكتب به كل المشاركين وهو في مقدمتهم رغم انني لم يتم تعييني بعد أو حتي تدريبي بشكل كامل.. اذكر مرة اننا كنا في مكتب د. حسين كامل بهاء الدين وزير التعليم الاسبق وسألت سؤالا نمطيا من عينة: ماهي استراتيجية وزارة التعليم في العشر سنوات القادمة؟ وهو سؤال يجعل اي وزير يتلقفه ليتحدث عشرات الساعات خاصة اذا كانت شخصية مثل هذا الوزير "المفوه".. وهنا تدخل الاستاذ محفوظ بسرعة وحنو ليقول يعني الاستاذ يسري يقصد كذا وكذا. ورغم تكرار مثل هذه الاسئلة أو حتي السطحية منها. مني أو من أي مشارك علي الترابيزة كان يتدخل بحرفية الاستاذ ولباقة المعلم ودبلوماسية السفراء ليعدل من دفة الحوار أو الاسئلة دون ان يجرح أو ينتقد صاحب السؤال.. اذكر له مقولة شهيرة حين كان يبدي احد الحاضرين رأيه في اي قضية اثناء الحوار يقول باسما: "بعد اللقاء يمكن ان نعقد ندوة نتحدث فيها وسوف نترك لك الفرصة كاملة لابداء وجهة نظرك.. فنضحك جميعا"!!
فوجئت به في احد اللقاءات المهمة في معرض القاهرة الدولي للكتاب وكان نجمها الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل.. وجدته مثلما تعودت ان آراه.. مثل أي صحفي مبتديء يحمل في يده رزمة من ورق الدشت "ورق الجرائد" وظل يكتب كل حرف وراء الاستاذ هيكل والاسئلة والاجابات حتي انتهي اللقاء وحين لمحني ابتسم قائلا: انت بتعمل ايه هنا؟.. قلت بسذاجة: بعمل تغطية؟.. ابتسم قائلا: وغطيت !!..ضحكت مشيرا لرزمة الورق قائلا: طبعا غطيت..قال: رايح فين؟.. قلت: للجرنان.. قال: طب ياله بينا!!..
ركبت معه وهو يقود السياره ولم اشعر بالطريق من مدينة نصر الي مبني الجمهورية القديم بوسط القاهرة بسبب تنوع حكاياته وارائه.. دخلنا المكتب وطلب من مدير مكتبه ان ينادي لنا عم محمد كي نشرب شاي ثم فاجأني بقوله: وريني كتبت ايه؟.. اطلعته علي ماكتبت.. ثم قال: اكتب.. وظل يملي علي الكلمات والجمل بسلاسة كأنه يري شريط الندوة امامه حتي انتهينا من كتابة اللقاء.. ثم قال: ماذا عندك ايضا؟..قلت: "معي ندوة للدكتور اسامة الباز وكذا وكذا.. قال: بينا نكتب.. اقرأ فقرة فقرة ويعيد هو الصياغة حتي اذا ما أنتهينا من كتابة 4 لقاءات.. بدأ في وضع العناوين وانا اتعلم منه.. وبعدما انتهي كتب بيده: "تابع اللقاءات يسري السيد".. فعل ذلك في وقت كان بعض رؤساء التحرير يضعون اسماءهم ببنط يقترب من المانشيت واسم من قام بالشغل بحق وحقيقي بنط 9 يعني اصغر من بنط الكتابة العادية في الجريدة..!!
كان مكتبه مفتوحا علي مصراعيه طوال الوقت وللدرجة انه اذا رآك بالصدفة وانت تسلم علي مدير مكتبه يناديك بحن والاخ الاكبر ويسألك عن اخبارك..اذكر ان منظره المعتاد لنا ان تجده يتأبط جرائده والجاكت علي يده الاخري ويرفض ان يحملها عنه "ساعي". وينزل ليقود سيارته بنفسه بعد السماح لسائقه بالمغادرة في وقت كانت تنصب فيها المواكب والحراسات لبعض رؤساء التحرير.. مهنيا كان استاذا يخطط ويناقش بديمقراطية لم اعهدها في غيره مع اعضاء العدد الاسبوعي للاعداد القادمة.. و حديثه مازال يرن في أذني.. ممتعا. عميقا. يأخذك بسلاسة من السياسة الي الفن والادب ومن التاريخ الي الجغرافيا ومن ابطال التاريخ الي ابطال الواقع. عشق الترحال جعله صالحا لكتابة ادب الرحلات لو أراد سواء للمدن والاماكن أو للنفوس والشخصيات الشهيرة. واعتقد ان وجوده لفترة في باريس وانتقاله الي بعض العواصم العربية والعالمية جعلته يطوي العالم في عقله وقلبه.. يتحدث بحب عن مدن عشقها مثل باريس وعن اشخاص احبهم مثل عبد الناصر ونهرو وتيتو.
كلما حننت اليه حدثته بالتليفون كي استرق السمع لصوته وبعد عدة جمل متبادلة اسمع ما انتظره منه ..دعوة علي الشاي لاستنشاق بعض دخان سيجار يختلسه الآن بعيدا عن "الرقابة"!! بعد ان شعر بمعاناة قلبه مما رآه منا.. اجري ملبيا الدعوة فورا لمكتبه في مقر اتحاد الصحفيين الافارقة كي استمع اليه واتعلم واذوب عشقا في اشخاص اراهم من نبت مصر الحقيقين!!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف