تلقيت الرسالة التالية "القاسية" من القارئة حنان عبدالفتاح السيد علي بريدي الإلكتروني تعليقاً علي مقالي المنشور بهذه الزاوية يوم الخميس الماضي تحت عنوان "أسوأ من داعش".. والذي أشرت فيه إلي جرائم القتل والحرق والتدمير المتعمد التي تقوم بها القوات الكردية المسلحة "البشمرجة" في شمال العراق وسوريا ضد أهالي القري والمدن العربية في تلك المناطق بهدف تهجيرهم قسرياً تمهيداً لإعلان قيام دولة كردستان الكبري في أقاليم مقتطعة من العراق وسوريا وإيران وتركيا.
تقول رسالة القارئة:
بعد التحية..
لا أعرف لماذا كل هذا الخوف والفزع من الحروب والقتل وحرق المنازل وتدمير الزراعات وتهجير السكان وكأنكم ترون هذه الجرائم لأول مرة.. بالله عليك أليس تاريخنا كله حروب ودمار وخراب وخيانة.. والقوي يأكل الضعيف.. أليس تاريخنا كله دول تقوم بالسيف ثم تعلو وتنتشر وتضم إليها دولاً أخري حتي تصل إلي قمة قوتها فتبدأ مرحلة الهبوط لتنتهي بالسيف - كما بدأت - علي يد دولة أخري ناهضة.
الحقيقة ان تاريخنا كله دم وحروب وتطهير عرقي فلا تسموها جرائم اليوم.. ولا تثيروا فزع الناس بما يحدث في سوريا والعراق واليمن وليبيا.. اتركوا حركة التاريخ تأخذ مجراها.. حتي تصل إلي محطة النهاية.. وسوف ينتصر الأقوي والأكثر قدرة وكفاءة وذكاء.. وسوف نتعامل معه علي انه واقع جديد مفروض علينا - أقصد فرض نفسه بحكم دورة التاريخ - إلي أن يأتي من هو أقوي منه فيقهره ويتغلب عليه ويقيم واقعاً جديداً.. وهكذا هي الحياة.. فلا تبتئس يا صديقي وانظر إلي الأمور نظرة شاملة.. واترك التاريخ يتحرك في مساره الطبيعي بحكم نظرية "تدافع الأمم والشعوب".
انتهت رسالة القارئة "القاسية" التي حيرتني حقيقة.. فأنا لست مثلها أضع نفسي خارج التاريخ لأحاكمه.. أنا جزء من هذا التاريخ.. أعيشه وأتنفسه وأصنعه مع الذين يصنعونه.. كل علي قدره.. نعم.. نحن لسنا قضاة لنحاكم التاريخ.. بل نحن مسئولون عما نفعله في إدارة حركة التاريخ.. وتاريخنا ليس كله دم وحروب كما تدعي.. تاريخنا فيه نماذج مشرفة في الحكم وإدارة السلطة والعلم وبناء الحضارة الإنسانية.. وفيه مراحل قوة مبهرة وعدل وانفتاح وقيم عليا.. ولولا هذا الانفتاح وقبول الآخر لما وجدنا هذا التنوع العرقي والديني والطائفي في بلادنا.. وهو تنوع ليس موجوداً في أوروبا الأكثر تحضراً اليوم.. تاريخ أوروبا زاخر بالمخازي والجرائم التي ارتكبت ضد الإنسانية.. قتل وحرق وإبادة جماعية وتهجير.. وعندما عاش اليهود في بعض الدول هناك عاشوا في "جيتو".. حارات ضيقة قذرة مغلقة عليهم مع خنازيرهم.. بينما كانوا يعيشون هناك في الشرق مواطنين من الدرجة الأولي.. منهم الوزراء ومستشارو الملوك والأمراء وهم الطبقة الأغني في المجتمع.
ثم إننا حتي ونحن نحاكم التاريخ يجب ألا نحاكمه بمنطق اليوم ومفاهيم اليوم.. لكن من العدل أن ننظر إلي كل عصر بمنطقه ومفاهيمه.. قديماً كان التاريخ محكوماً بمنطق القوة ومفهوم الغلبة.. أما الآن فالتاريخ محكوم بقيم الديمقراطية والعدالة واحترام الآخر وحقوق الإنسان.
دولة الخلافة قديماً كانت تتسع لكل الأجناس والأعراق والشعوب والطوائف والأديان والألوان.. الانتماء فيها للدولة أو السلطنة العليا.. الآن الدولة الوطنية تتسع أيضاً لكل الأجناس والأعراق والطوائف والأديان والألوان.. لكن الانتماء فيها للوطن وليس للحاكم.. والقانون فيها لا يقوم علي القوة وإنما علي الدستور الذي يحدد الحقوق والواجبات ويصون الحريات المتساوية للجميع.
لذلك.. من حقنا أن نعيش بقيم زماننا ومفاهيم زماننا ولا نتكئ علي الماضي لنبرر جرائم الحاضر.. فالدولة الوطنية الديمقراطية هي الحل وليس السلاح هو الحل.. وليست القوة هي الحل.