دفعت أُمَّتُنا أثمانا وخيمة من خيرة رجالاتها، وأعظم ثرواتها، وكريم مكانتها، بين الأمم؛ لا لشيء إلا ثمنا لسوء تقدير بعض أبنائها، إما غباء، أو غرورا، أو اغترارا بالنفس، أو توهما لقدرات غير موجودة، أو تقديرا لأمور حالمة، ونتائج مستحيلة.
إن "سوء التقدير" خلل يقلب الأمور إلى أضداها، ويُفضي بالمقدمات إلى عكسها، ويجلب الخراب للعمار، والبوار للأعمال، لذلك دعانا القرآن الكريم، والسُّنَّة النبوية، إلى حسن التقدير، وإمعان التدبير، ودقة التخطيط، على بصيرة مستقصية، ونظرة متأنية.
فكم تسبب سوء التقدير في ظلم أناس، وجلب هزائم، وسوء عمل، في تاريخنا القديم والحديث؟.
ومن أسف أن من ارتكب تلك الجريمة، ومن لاحظها، أو انتبه إليها، قد مضى إلى حال سبيله، نازلا قبره، مستقبلا آخرته، دون حساب أو مُساءلة، أو حتى اتهام ومحاكمة، أو وضعه في مكانه اللائق به من الخسَّة والوضاعة، ناهيك عن أن يُقدم، أو يُكرم، أو يُحسن إلى ذكره، وهو الوضيع فعله، الخسيس تقديره، الحقير بطشه.
قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ".
إنها الآية الثامنة عشرة من سورة "الحشر"، وعدد كلماتها 18 كلمة، وورد فيها لفظ الجلالة ثلاث مرات، والدعوة لتقوى الله: مرتين.
تضمنت الآية أصول الارتقاء البشري، ومباديء التحضر الإنساني؛ ولخصتها في ضرورة التطهر من الماضي: "مَا قَدَّمَتْ"، والعمل المؤثر في الحاضر: "تَعْمَلُونَ"، والتطلع الواعي إلى المستقبل: "لْتَنْظُرْ".
والفاعل، وصاحاب الإنجاز، والمخاطَب؛ هو أنت. وقد شرَّفك الله تعالى بالنداء: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا". والحدث هو عملك: التقديم لغد. أما المدى الزمني فهو: "لِغَدٍ".. والأفعال خمسة، كلها حركة: " اتَّقُوا اللَّهَ" (مرتين)، و"لْتَنْظُرْ"، و"قَدَّمَتْ"، و"تَعْمَلُونَ".
والمعنى: "انظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم".(تفسير ابن كثير).
ومن هذه الدعوة الإلهية إلى دقة النظر، ننتقل إلى توجيه الله تعالى لنبيه داود عليه السلام، بأن يحسن صناعة "السابغات"، بشكل دقيق، وهي الدروع، التي تُلبس في الحرب، بحيث تكون "سابغات"، أي: "كوامل تامات".
قال تعالى: "وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ".(سبأ:11).
"أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ" هي الدروع. قال قتادة: هو أول من عملها من الخلق، وإنما كانت قبل ذلك صفائح.
"وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ": إرشاد من اللّه تعالى لنبيه داود في تعليمه صنعة الدروع. قال مجاهد: لا تدق المسمار فيفلق في الحلقة (السرد)، ولا تغلظه فيقصمها، واجعله بقدر. يقال: "درع مسرودة" إذا كانت مسمورة الحلق، وبقدر ما يدخل فيها، حتى لا يسقط الدرع (ابن كثير).
وقال ابن عباس: "التقدير الذي أُمر به هو في المسمار، أي لا تجعل مسمار الدرع رقيقا فيُفلق، ولا غليظا فيفصم الحلق". (القرطبي).
لنا أيضا في قِصَّة سليمان، عليه السلام، مع الهدهد، التي ورَدَت في سورة النَّمل؛ مثل وعبرة، في ضرورة حسن التقدير، سواء من سليمان أو الهدهد.. إذ قال تعالى: "فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ". (النمل: 22).
قال الطبري: "فمكث سليمان غير طويل من حين سأل عن الهدهد, حتى جاء إليه"، فذَهَب الهدهد إلى مملكة سبأ، وغاب زمنا يسيرا، ثم جاء، "فقال لسليمان: "اطلعتُ على ما لم تطلع عليه، أنت ولا جنودك، وجئتك من سبأ بنبأ يقين: خبر صدق حق يقين".(ابن كثير).
أما في السيرة النبوية، فقد رأينا حسن تقدير رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في التعامل مع الحياة، لا سيما إدارة المعارك، وبالأخصِّ عندما قال للرماة، في موقعة أحد": "إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخَطَّفنَا الطَّيْر فَلَا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِل إِلَيْكُمْ"؛ لكن معظم الرماة خالف أمره، ووقع في خطأ قلَب الموازين، بعد أن نادى هؤلاء: "فَلَنُصِيبَنَّ مِنْ الْغَنِيمَة"، الأمر الذي ألحق هزيمة فادحة بالمسلمين.
وفي هذا قال تعالى: "إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ. وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ".(آل عمران:153).
والمعنى، بحسب التفاسير: "إِذْ تُصْعِدُونَ"، أَيْ فِي الْجَبَل هَارِبِينَ مِنْ أَعْدَائِكُمْ، وَأَنْتُمْ لَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَد مِنْ الدَّهَش وَالْخَوْف وَالرُّعْب. وَالرَّسُول قَدْ خَلَّفْتُمُوهُ وَرَاء ظُهُوركُمْ، يَدْعُوكُمْ إِلَى تَرْك الْفِرَار مِنْ الْأَعْدَاء"، قائلًا: "إِلَيَّ عِبَاد اللَّه".
قال الشيخ محمد الغزالي: "إن خدمة الإسلام تحتاج إلى رجل يجمع بين عنصرين.. الأول: الإخلاص العميق لله، والثاني: الذكاء العميق والفهم الناضج في رؤية الأشياء على طبيعتها".
وفي حسن الفهم والتقدير، قال مثل ألماني: "يقلل الناس من قيمة ما لا يفهمونه". وقال إبراهيم الفقي: "إذا غيرت نظرتك للأشياء.. الأشياء التي تنظر إليها تتغير".
أما جوتة فقال: "ما لا نستطيع فهمه بالكامل.. لا نستطيع السيطرة عليه". وأخيرا قال كولن باول: "القيادة هي حل المشكلات".
إن علينا مراجعة ذاتنا، وتقويم قدراتنا، وعدم المبالغة فيها، أو الانتقاص منها، مع التفكير في أفعالنا، ماضيا وحاضرا، وتدبر عواقبها مستقبلا، وقبل الإقدام عليها، حتى لا يترتب عليها مفسدة، أو مظلمة، أو أذى؛ يحيط بنا، وبمن حولنا.