المصريون
جمال سلطان
رحيل كاسترو .. آخر الديكتاتوريات الثورية
أعلنت كوبا اليوم عن وفاة قائد ثورتها الشيوعية فيدل كاسترو عن عمر ناهز التسعين عاما ، قضى نصف قرن منه رئيسا للبلاد بعد أن سيطر على مقاليد الحكم بغزوة عسكرية من ميليشيات جمعها من المعارضين اليساريين ولجأ بهم إلى الجبال في نهاية الخمسينات الميلادية الماضية ، وظل كاسترو طوال هذه السنوات الخمسين الزعيم الأوحد للبلاد ، بلا منافس ، بعد أن جفف ينابيع الحياة السياسية بالكامل في كوبا وحظر الأحزاب السياسية والجمعيات المدنية والأهلية والتنظيمات بمختلف صورها ووضع الإعلام المحدود تحت السيطرة الكاملة للدولة والحزب الشيوعي وفرض الحصار الكامل على حدود البلاد فلا يخرج ولا يدخل أحد إلا بتصريح خاص وقطع وسائل الاتصال وتعامل معها بوصفها تهديدا لأمن كوبا القومي بما في ذلك أجهزة الكومبيوتر التي كانت كوبا آخر بلد تدخله ، ومؤخرا تم السماح بخدمة الانترنت . ثورة كاسترو على نظام "باتيستا" كانت بداعي التضييق على الحريات العامة ومحاصرة الصحف والتلاعب بالانتخابات وفرض الاستبداد وضعف الخدمات ، ومع ذلك كانت كوبا في عهده أشد ظلامية في تلك النواحي جميعا إضافة إلى زيادة معدلات الفقر بصورة مخيفة اضطرت الشعب إلى خوض البحر هربا إلى بلاد الحرية ، بل إنه صادر الأحزاب من المنبع ومنع تشكيلها إلا حزبه هو ، كما فرض حصارا على العقل منذ المولد ووضع مناهج تعليم ونظام تعليم صارم لا يعرف فيه الأطفال إلا الفكر الشيوعي وقادته والولاء الكامل له وأن أي تفكير مختلف هو خيانة للوطن وللثورة ، وأي معارضة يتم التعامل معها بمنتهى القسوة فكانت حفلات التعذيب وحفلات الإعدام خارج أي قانون أو نظام عدالة ، كما كانت أحكام السجن بمدد طويلة ، وكانت السجون من أهم مشاريع التوسع العمراني لكوبا في حكم كاسترو ، حيث أقام أكثر من ثلاثمائة سجن كبير ، كما أنشأ معسكرات عمل وتعذيب ضخمة لاستيعاب أعداد أكبر إن استدعت الظروف ، وقد اضطرت تلك السياسات إلى هروب أعداد كبيرة قدرت بمئات الآلاف من الكوبيين ، خاصة من المثقفين وأصحاب المهن الرفيعة مثل الأطباء والمهندسين والمحامين إلى أمريكا وبريطانيا وأسبانيا وكندا ، ثم لما انهارت أحوال البلاد الاقتصادية بسبب سوء الإدارة والحصار الأمريكي اندفع مئات الآلاف من الكوبيين الفقراء الذين ضاقت بهم الحياة إلى الهجرة هربا عبر البحر إلى أمريكا على النحو الذي يحدث الآن لشبان من وسط وشمال أفريقيا . بنى كاسترو مجده ، مثل كل الديكتاتوريات التي نشأت في العالم في ذلك الوقت ، باعتبار أنه يتحدى الأمريكان ويقاوم الاستعمار ويساعد الشعوب على نيل حريتها وكرامتها ، رغم أن أول دولة اعترفت بحكومة كاسترو كانت الولايات المتحدة ، كما كانت أول دولة أجنبية يزورها كاسترو بعد استيلائه على السلطة هي الولايات المتحدة ، فلما أدارت ظهرها له اتجه إلى الاتحاد السوفييتي ، وحاولت المخابرات الأمريكية ترتيب عملية للإطاحة به ففشلت ثم حدثت أزمة نشر الصواريخ السوفيتية على أراضيه وتم الاتفاق بين السوفييت والأمريكان على حماية نظام كاسترو ومنع أي تهديد له ضمن حزمة تسويات سياسية بين القطبين . كاسترو مثله مثل أي نظام ديكتاتوري عسكري آخر في تلك المرحلة ، حاول الاحتماء بأحد القطبين الكبيرين المهيمنين على العالم وقتها ، الاتحاد السوفيتي وأمريكا ، كما وضع شعبه ومقدراته وحتى جيشه تحت الطلب ، فأرسل كاسترو عشرات الآلاف من جيش كوبا إلى الكونغو واثيوبيا في أفريقيا لدعم ديكتاتوريات شيوعية موالية لموسكو وقتها ، كما كان صديقا وحليفا لكل ديكتاتوريات الشرق الأوسط بما في ذلك العقيد القذافي الأكثر شبها بكاسترو ، حتى في طول المقام في السلطة . تلك التجارب التي وصفت بالثورات لم تكن في الحقيقة سوى انقلابات عسكرية أو صراعات مسلحة بين كتل سياسية للسيطرة على السلطة ، وكل أطرافها تحمل عقلا ديكتاتوريا محضا ، والخلاف فقط هو خلاف في أيديولوجية كل دكتاتور ، ولكن القمع والتنكيل بالمعارضين والإعدامات بالجملة وقمع الشعوب وخنق الصحافة وحصار أو منع الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني والسيطرة الكاملة على التعليم والثقافة والدين وكل فضاءات المعرفة والفكر ومنع أي تداول سلمي للسلطة واحتقار إرادة الشعب ومؤسساته ، كل تلك كانت واحدة بين الديكتاتوريات القائمة والديكتاتوريات الثورية التي انتفضت ضدها . وبشكل عام ، فإن أي حراك ثوري لا يضمن نقل السلطة إلى الشعب ومؤسساته المنتخبة بشفافية وضمان الفصل بين السلطات ونظام عدالة مستقل ودستور يحمي الحريات العامة وقيم العدل والكرامة للإنسان ، فهو مجرد صراع على السلطة مهما أطلق على نفسه من ألقاب ثورية ، وأعتقد أن البشرية قد تجاوزت اليوم مرحلة المراهقة الثورية التي كان باستطاعة أي "مغامر" أن يخدع بها أشواق الشعوب ، من خلال حديث أجوف عن المقاومة أو تحدي قوى الاستعمار أو ما شابه ذلك من عنتريات كانت شائعة في الخمسينات والستينات وأضاعت مستقبل شعوب العالم الثالث لقرن كامل من الزمان .

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف