ربت الطبيب النفسى الكبير على كتفى فى حنو.. وشد على يدى مصافحاً فى حرارة، مؤكداً وأنا أنصرف من عيادته:
- اطمئن.. أنت بخير.. ثمة اكتئاب انفعالى بسيط.. وهو مرض لطيف يمكنك من خلال صداقتك له أن تروضه.. وتمنعه من التفاقم.. وتتجنب مضاعفاته.. فقط عليك «بالتكيف».. و«التكيف» معناه الاعتراف بحاجة الإنسان إلى أفراد مجتمعه.. ومن ثم فإن عليه أن يقيم نوعاً من التطبيع الاجتماعى مع الناس.. والإنسان المتكيف هو الذى يعمل على إرضاء الآخرين.. ويعرف كيف يحيا سعيداً معهم..
ركبت سيارة أجرة عائداً إلى منزلى.. وما أن بدأ السائق يتحرك بالسيارة حتى أدار الكاسيت فانطلق صوت يصرخ فى إزعاج وغلظة وخشونة:
- أنا بيت فى بيت.. أنا رص.. رص.. أنا دوشة.. دوشة.. أنا هس.. هس.. أنا كله كله.. أنا نص نص.. أنا عو عو.. أنا يما يما.. أنا حق حق..
رمقت السائق الذى يتمايل طرباً فى استمتاع واندماج مع الأغنية وهتفت فى استنكار:
- إيه ده؟!.. إيه اللى بيحصل ده يا أخ.. دى أغنية؟!
- أيوه يا بيه.. أمال موال؟!.. أغنية طبعاً..
ثم يردد ضاحكاً مستدركاً:
- بس اسمها «أنا مش باغنى».
- طبعاً مش بتغنى.. دى بتصرخ.. بتتوجع.. بتتأوه.. بتستغيث.. بتعدد.. دى نشاز..
يؤكد السائق فى عدم فهم:
- لا يا بيه.. اسمها مش «نشاز».. دى اسمها «مريم صالح».. مريم شوية لعبكة.. وشوية دربكة.. وبين الدربكة واللعبكة مش بتغنى.. هى ذات نفسها بتقول: أنا مش بنام.. أنا مش بقوم.. أنا بالأخص.. وعلى العموم.. أنا أى حاجة وكل يوم.
خلى بالك من «أى حاجة وكل يوم دى».. قشطة.. مش كده؟!
صحت فى غضب وانفعال:
- لأ.. مش قشطة.. ده إسفاف.. مين اللى كاتب الدرر دى؟.. أكيد «حمادة ترامادول» مش كده؟
- لأ مش كده.. هى اللهم لا حسد واخداها من بابها.. تسليم مفتاح.. كلام وغنى وتلحين والذى منه.. وإديله ماتريحوش.. هنا تسليك.. هنا توليع..
- تلحين؟ بتقول تلحين؟.. ده أى منجد يعمل اللى بتعمله ده.
يصيح السائق فى استهجان:
- هاتزعلنا بقى.. شكلك لامؤاخذة «قديم فونوغراف».. «سيكا نهاوند».. وإوعى تكلمنى بابا جاى ورايا.. ويا خوفى من أمك لا تدور عليك.. والكلام ده كله.
انسى وخد البنسة.. وإديها «روك» تديك «طراوة».. اغسل «القلقاسة» واقلب اليافطة.. الحياة مش مترجمة.
ثم ما يلبث أن يندمج مرة أخرى مع الأغنية.. يصيح مع المطربة:
- أنا حق حق.. أنا خم خم.. أنا أعمى أعمى.. أنا بص بص.. أنا جرح جرح.. علاج علاج.. أنا عيشة عيشة.. عيشة هلاك.. وأنا..
صرخت مقاطعاً فى سخط وانفعال متصاعد:
- عيشة هباب.. أنا مش فاهم.. مين اللى سمح بالانحطاط والابتذال ده يتسجل على شرايط؟!
يصيح السائق معترضاً فى غضب:
- انحطاط إيه يا بيه؟.. عليا النعمة انت اللى (أوفر دوز كآبة).. ما لسه راكب معايا واحد قديم زيك يا عمو.. وعجبته الغنوة وقال لى إنه ياما زمان كان فى أغانى بذاءة وإسفاف على انحطاط والذى منه كانوا بيغنوهم فى الأفراح والليالى الملاح.. زى «سلفنى بوسة من خدك.. انت خفيف حتى فى سكرك.. حرص منى وإوعى تزغزغنى.. جسمى رقيق مايستحملش».. وفيه ست غندور اسمها (منيرة -لا مؤاخذة- المهلبية) سبق وغنت..
صحت مقاطعاً: اسمها «منيرة المهدية».
- أيوة، قالت: إن كنت خايف من جوزى.. حشاش وواخد داتورة..
إن كنت خايف من البواب.. أعمى ورجليه مكسورة
إن كنت تايه عن بيتنا.. بيتنا قصاده دحدورة
إن كنت تايه عن اسمى.. اسمى منيرة الغندورة
ثم معلقاً: انحراف آداب وتحريض تلبس أستغفر الله العظيم.. صح ولا لأ؟
قلت موضحاً ومبرراً:
- هى فعلاً غنت هذه الأغنية وسجلتها على أسطوانة نزولاً على رغبة صاحب شركة «بيضافون» وعندما أدركت خطورة الطريق الفنى الذى تسير فيه قاطعت أمثال هذه الأغانى.
شركات الأسطوانات فى وقتها كانت تساعد المستعمرين بإلهاء الناس عن مشاكلهم وعن التفكير فى أحوال البلد وذلك بوضعهم على طريق الانحراف.
على العموم دى كانت استثناءات فى فترات زمنية معينة فى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.. لكن دلوقتى الفن الرخيص تفشى وبقى هو القاعدة.
وتذكرت مقالاً مهماً للشاعر الكبير «فاروق جويدة» قال فيه: «أصبح للفن الهابط جمهوره العريض.. وفى ظل غياب الجمال يمكن أن يتعود الناس القبح حتى يتصورونه جمالاً وتلك هى المصيبة».
كما تذكرت أقصوصة صينية قديمة فحواها أن موسيقاراً شهيراً كان يعزف على قيثارته فلمح ثوراً منهمكاً فى أكل العشب فأخذ يعزف له بعض الألحان إلا أن الثور ظل مستغرقاً فى الأكل وكأنه لم يسمع شيئاً.. فما كان من الموسيقار إلا أن عزف ألحاناً تشبه طنين البعوض وخوار البقر ونقيق الضفادع.. ولم تكد الألحان تتصاعد حتى انتبه الثور مسترقاً السمع بعمق.
ظل السائق سادراً فى غيه، بل إنه فى تحدٍ سافر لأعصابى ارتفع بصوت الكاسيت لتنطلق المغنية:
- ليه تتربط ياللى فى ضهرك جناح / إحزن علشان تنبسط / موت علشان ترتاح / ده الموت يعيدك لأصلك/ بس انت موتك معصلج.
صرخت بانهيار: بس.. اقفل الكاسيت ده.
- جرى إيه يا حاج.. انت هاتقل مزاجنا ليه يا جدو؟
- ده مزاج متخلف.. وذوق هابط.. اقفل الكاسيت.
- لأ بقى.. ده التاكس بتاعى.. مش عاجبك انزل وإديها سكة.. طريقك صحراوى..
- مش نازل و..
وفجأه توقفت عن الحديث متراجعاً.. وقد رنت فى أذنى عبارة الطبيب النفسى: تكيّف، دى نصيحتى ليك.
مغلوباً على أمرى طلبت من السائق أن يواصل سيره مستمعاً إلى من يشاء.
وقلت وأنا أكظم غيظى محاولاً السيطرة على انفعالاتى ومغتصباً ابتسامه تكيف لزجة:
- لطيفة الأغنية.. ظريفة (مريم صالح).. أنا متكيف.
فإذا به يصيح فى حدة وغلظة:
- وأنا مش متكيف.. اتشائمت منك.. شكلك كده شبه الظروف الوحشة.. والتعويم.. وأزمة السكر.. وأهى سنين سودة وعايشينها.
وأصر على الامتناع عن توصيلى.
مدحوراً هبطت من السيارة.. وانتظرت ساعة كاملة حتى أمكننى ركوب تاكسى آخر.
بسرعة وآلية تراقصت منتشياً متجاوباً مع السائق ومع صوت المطربة العبقرية التى تنطلق -أيضاً- من كاسيت السائق الآخر وأنا أردد معه ومعها:
ارمى أسئلتك ورا ظهرك / واقلع صدمة الأحزان قصاد الناس / ماهياش فارقة تكون عريان ولا بلباس.