الأهرام
د. نصر محمد عارف
عندما تتحكم العقلية الغرائزية فى مصير العرب
العنصر الأول الغائب عن المشهد العربى هو العقل، وإن حضر يحضر على استحياء، ويبقى لفترة وجيزة ثم ينزوى منسحباً فى خجل شديد، المشهد العربى مشهد غرائزى بامتياز، والمقصود بالغرائزى هنا هو تحكم غرائز الإنسان الحيوانية فى جميع سلوكياته، وتحكم تلك الغرائز فى إدارة الدول والأحزاب والجماعات والمنظمات، فتكون السياسات والمواقف تلبية لغرائز بهيمية.

العقلية الغرائزية لا ترى الواقع إلا من خلال رغباتها وشهواتها، لا تراه إلا من منظار معى أو ضدي، يرضينى أو يغضبني، يحبنى أو يكرهني، من أهلى وعشيرتى أم من أعدائى وخصومي، تسيطر عليها الشهوات الانفعالية والغضبية، تحب بلا حدود، وتكره بلا قيودة العقلية الغرائزية دفينة فى نفوسنا، وعميقة فى ثقافتنا.

فى عصر بلغ من العقلانية والرشادة مداها، وبالغ فيهما حتى صارا دينا من دون الدين، العقلانية والرشادة تحكمان العالم فى كل شىء، فى السياسة والاقتصاد، فى الثقافة والمجتمع، فى العلاقات الدولية والسلم والحربةولكن نحن العرب بعيدون عن ذلك بعد المشرقين.

العقلية الغرائزية تتحكم فى جميع مناحى حياتنا، من أبسط وحدات المجتمع إلى العلاقات الدولية والسلم والحرب، مجتمعاتنا أكثر مجتمعات العالم مبالغة فى تكاليف الزواج والأفراح، وفيها أعلى معدلات العالم فى الطلاق خصوصاً فى سنوات الزواج الأولي. خصوماتنا تنقلب دماً وتتحول ثأراً؛ تفنى فيه أعمار أجيال من أبنائنا. معاملاتنا الاقتصادية مرتبكة؛ يغلب عليها التدمير المتبادل، لذلك يستحيل أن تجد تحالفا اقتصاديا عربيا ضخما فى أى مجال.

فلننظر إلى العراق؛ حيث أكثر ظواهر الفكر الغرائزى وضوحا واستمراراً، أحزاب وكيانات وأجيال لم تشف بعد من التشفى من خصوم، لم ير أحد خصومتهم، ولم يعايش أحد عداواتهم، ولكن كتب الطائفة تقول إن أجداد أجدادهم من أربعة عشر قرنا كانوا خصوما لمن أصبحنا نحب اليوم، ولم يكن كذلك أجداد أجدادنا الذين عاصروهم، العراق حالة مثالية للفكر الغرائزى والسياسة الغرائزية، وبناء دولة على أسس وقواعد غرائزية، والتخطيط للمستقبل بمنهجية غرائزية، ولعل تمرير قانون تحصين الحشد الشعبى الذى ضرب الوحدة الوطنية العراقية فى مقتل، ووضع أسس مجتمع طائفى يعود للقرون الوسطي، تمرير هذا القانون أمس الأول هو تصدير للحالة الغرائزية لأجيال قادمة.

أما الحالة السورية ففيها توحشت غرائز الأبعدين المتحكمين فى تجار الشام الذين باعوا كل شىء، حالة غريبة يتم فيها تدمير دولة وقتل شعب لإشباع غرائز آخرين فى مناطق بعيدة جنوباً وشمالاً وشرقاً، تتحكم غرائز الممولين فى أدوات غرائزية تسمى نفسها ثورية أو وطنية من أجل أهداف غرائزية تتعلق بالانتقام والتشفي، وتخليص ثارات قريبة أو بعيدة.

وكذلك الأمر فى ليبيا واليمن تتصارع الغرائز الحيوانية، ويغيب العقل والرشد، وتنتهى الأوطان، ويضيع الإنسان لأجيال قادمة، نفس منظومة الغرائز البهيمية لنفس اللاعبين الدوليين الذين يملكون المال، ويهلكون به الإنسان، انتقاماً من خصوم لا يستطيعون مواجهتهم مباشرة، حالة تصيب الإنسان بالموت العقلي، حين يقتنع أن العقل لا دور ولا وجود له أمام توحش الغرائز البهيمية؛ المبررة باسم الدين تارة، والوطنية تارة أخري، والقيم العالمية كالحرية والديمقراطية وحق الشعوب فى حكم نفسها تارة ثالثة، وللأسف نجد من يرفعون هذه الشعارات لا يطبقونها، ولا يجرءون أن يطالبوا بها لأولادهم وأحفادهم، ناهيك عن مجرد طلبها لأنفسهم.

العلاقات العربية- العربية تتحكم فيها العقلية الغرائزية، وتديرها كفاءات ماهرة فى إشباع الغرائز البهيمية، إذا أخضعت المواقف والقرارات للبحث والتحليل لن تجد ما يمكن أن تبرره المصلحة الوطنية أو القومية، ولن تجد ما يقبله العقل على أنه قرار رشيد، وسياسة عقلانية تخدم مصلحة هذه الدولة أو تلك، الغالب الأعم مناكفات غرائزية للانتقام والتشفي، أو معاقبة متمرد على عظمة الذات المتضخمة، وفى الجانب الآخر مجاملة صديق أو حبيب، مؤقت بالطبع، فى موقف قد يضره أكثر مما يفيده، ولعل تحليل موقف العرب جميعا فى مؤتمر القمة العربية الإفريقية الأخير يقدم لنا نموذجا للفشل المتقن فى التعامل مع الأفارقة الموحدين خلف قضيتهم رغم خلافاتهم، فقد ظهر العرب فى موقف مزرى من التشتت والتشرذم، والفوضى وانعدام التنسيق، وعدم القدرة على التفاهم والحوار، وخلاصة الأمر كان حضورهم يعبر عن دولهم وليس عن عالم عربى يتفق على الحد الأدنى من المصالح المشتركة.

العقلية الغرائزية لن تسمح للعرب بالدخول فى المستقبل، ستبقيهم خارج التاريخ كما كانوا فى القرن الماضي، لأن هذا العصر لا يستطيع العيش فيه من لا يملك من قيم العقلانية والرشادة ما يمكنه من إدراك مصالحه بصورة دقيقة وواقعية، ويستطيع تحقيقها بالتعاون مع الآخرين المخالفين له فى كل شىء، بعقلانية ورشادة؛ تحقق له مصالحة دون أن تمس مصالح الآخرين، لن يستطيع العبور للمستقبل من لا يستطيع أن يتقبل وجود عدوه، ويتعامل معه، ويتبادل المنافع معه، لن يستطيع العيش فى المستقبل من لا يستطيع العيش مع من يكره، لان المستقبل لا مكان فيه لمن يريد أن يصنع عالماً على مقاسه ومقاس جماعته أو طائفته أو مذهبه، هذا ممكن فقط فى قصيدة شعر، أو رواية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف