تقول أنباء أمس الأول إن زعيم كوبا مؤسس ثورتها توفى عن عمر يصل إلى 90 عاما، وأعلنت الجزائر ـ مثلا ـ الحداد لمدة 8 أيام حيث أصبحت كوبا وفيدل أيقونة ثورات العالم الثالث.
تقول إحدى الإحصائيات غير المتوقعة، لكنها مهمة، عن الثورة عامة: إن نحو ثلثى الثوار منذ سنة 1400 يفشلون فى الوصول للحكم، وإن الثلث فقط من الثلث الباقى (أى السدس) ينجح فى الاستمرار فى الحكم ثلاثة أعوام أو أكثر، تجربة كوبا مع زعيمها فيدل كاسترو تدعونا لإعادة التفكير، قد تنجح فعلا ثورة واحدة من كل تسع فى الاستمرار فى الحكم، ولكن نجاحها قد يعوض فشل هذه الأغلبية.
ولد فيدل فى سنة 1926، من عائلة ثرية، لكنه اتجه إلى اليسار السياسي، اعتلى جبال الثورة مع فقراء الفلاحين، وسُجن للمرة الأولى فى سنة 1953، لكن بعد الإفراج عنه عاد إلى الجبال ، وانتصر هذه المرة ضد ديكتاتور كوبا باتيستا، فى يناير سنة 1959، بالرغم من اعتراف الولايات المتحدة به، فإن القطيعة حدثت بعد قيام كاسترو بتأميم ممتلكات بعض الأمريكيين لوضع نهاية لما يسمى «جمهوريات الموز»، وكما تم توجيه الاتهامات بالشيوعية ضد عبدالناصر بعد تأميم قناة السويس فى سنة 1956، بدأت الحرب الوحشية ضد كاسترو.
النتيجة أن كاسترو فى مواجهة الحصار والتهديد الأمريكى المتزايد، ارتمى أكثر وأكثر فى أحضان الاتحاد السوفيتي، الذى استورد كل السكر الكوبى لإفشال محاولة تجويع شعب هذا البلد، بل ذهبت موسكو أكثر من ذلك ووضعت صواريخها النووية فى كوبا، أى على مقربة من واشنطن ونيويورك، لذلك يرتبط اسم كاسترو وكوبا بأكبر أزمة فى سنة 1962التى وضعت قطبى الحرب الباردة (واشنطن وموسكو) والعالم معهما على شفا حرب نووية مدمرة لكل ما هو كائن على الأرض، فعندما أصاب الهلع أمريكا من اكتشاف الصواريخ النووية والخطر المحدق بأهم مدنها، قامت بحصار الشواطئ الكوبية والإصرار على تفتيش السفن السوفيتية ولو بالقوة، لكن أمام الاحتمال المروع لحرب نووية، حاولت كل من واشنطن وموسكو بكل جدية تجنب الاندفاع إلى التهلكة العالمية، ومحاولة إيجاد حل، ليس فقط لهذه الأزمة، ولكن خاصة عدم تكرارها، فقام الاتحاد السوفيتى بسحب صواريخه، وقامت الولايات المتحدة فى المقابل بسحب جزء من صواريخها من تركيا القريبة من المدن السوفيتية، كما تعهدت الولايات المتحدة بعدم تكرار محاولة غزو كوبا، بل إن موسكو وواشنطن اتفقتا على عدم الوقوع فى فخ المواجهة النووية الخطيرة مرة أخري، وأقامتا ما يسمى «الخط الساخن»، أى التليفون المباشر الذى يسمح بالاتصال فورا بين قمة القيادة فى موسكو وواشنطن لتبادل المعلومات الأساسية، وتجنب حدوث أى سوء تفاهم أو خطأ ما.
والحقيقة أنه فى التأريخ للحرب الباردة، تتفق كل المصادر والدراسات على أن الأزمة الكوبية فى سنة 1962 شكلت نقلة نوعية للثورة نفسها، وللسياسة العالمية، أتذكر ونحن طلاب فى مصر على بعد آلاف الأميال من كوبا ومن أمريكا، كنا ننظر إلى السماء فى أكتوبر سنة 1962 خوفا من وصول الصواريخ النووية إلى فوق رءوسنا، وكانت مشاعرنا مع كوبا بالطبع بلد الثورة، وزعيمها الشاب فيدل، الثورجى مثل صديقه عبدالناصر، المعادى للإمبريالية والهيمنة الأمريكية، وعندما خرجت للدراسة بعد ذلك كنت شغوفا بالمعرفة أكثر عن فيدل وبلده وثورته، وقد تواصل مع شغفى هذا زملائى الطلاب من دول أمريكا اللاتينية المختلفة الذين عملت على الالتقاء بهم، وحتى الارتباط بالصداقة مع بعضهم.
كان الشغف الثانى بعد الاستماع للكثيرين من جيران فيدل، هو الذهاب فعلا إلى بلد هذا الثرى ابن الأثرياء، والذى اختار الوقوف بجانب العدالة الاجتماعية، وبالتالى عندما عملت بالتدريس وتيسر الحال، كانت الرحلة إلى كوبا من أولى زياراتى لأمريكا اللاتينية، وحتى الحلم بلقاء رئيس ثورتها لم أنجح فى تحقيقه فى هذه الزيارة الأولي، ولكن أعجبنى ما رأيته من تقدم الريف الكوبى.
الزيارة الثانية كانت بدعوة من بعض أعضاء اتحاد الطلاب فى كوبا، الذين أفهموننى أن فيدل سيكون المتحدث الرئيسى فى احتفالهم، وكان فيدل فعلا متحدثا ومتألقا، وقد تعدى الستين من عمره، وبالرغم من أن المحاولات للقائه لم تنجح، فإنى رأيته بالقرب بسيجاره الضخم الذى لا يفارقه، وسلوكه التلقائي، وحماسه الثوري، وكأنه لايزال شابا.
أقام فيدل الثرى ابن الأغنياء، ثورة شعبية، ونظاما اشتراكيا استمر لمدة 57 عاما، ولم ينهر حتى عندما انهار حائط برلين فى 1989، وانتهت الكتلة الشيوعية، وانضم معظم أعضائها إلى غريمهم السابق الاتحاد الأوروبي، أو حتى حلف الناتو، بل قاومت كوبا وفيدل قبطانها، وذلك بالرغم من وجود نحو 600 مؤامرة أمريكية لاغتياله، أو النيل منه جسمانيا، وتعجيزه عن طريق السم، أو صدف بحر مفخخ، إلا أنه بقي، وتعاقب عليه أكثر من 9 رؤساء أمريكيين، لو كان هناك فعلا جائزة نوبل للنجاة من الاغتيالات، لفاز بها فيدل بجدارة!
آخر الأنباء تقول إن المهاجرين الكوبيين الذين تركوا بلدهم هربا من ثورة فيدل، تظاهروا فى ميامى وبقية مدن فلوريدا، احتفالا بوفاته، بينما أعلنت الحكومة الكوبية الحداد 9 أيام حزنا على وفاة الزعيم، ومهما أصبحت كوبا فى المستقبل، فإن فيدل ـ مثله مثل كبار الزعماء كنيلسون مانديلا ـ يصبح رمزا لعصر، ولا يموت حتى لو تم إحراق جثته كما طلب فى وصيته.