يوسف القعيد
لو كان القلب يفكر لتوقف عن الخفقان
ما أكثر روايات زمن الانفجار الروائي. وما أقل ما يصيب الروح برعشة. وقلة الجيد وكثرة الغث تجعلنى أتردد قبل أن أدخل فى قراءة رواية جديدة. إن كانت لروائى لم يسبق أن سمعت به. لكن التجربة هذه المرة ـ وأرجو ألا تكون الأخيرة ـ كانت مبهرة.
الكتاب عنوانه (أزهار عباد الشمس العمياء) نشره المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب بالكويت الشقيق. فى سلسلة: إبداعات عالمية. ورقمها 397، وصادرة فى أكتوبر 2013، مر على صدورها ثلاث سنوات. والإبداعات العالمية التى تترجمها الكويت، مسرحا أو رواية أو شعرا أكثر من جيدة.
مشكلة سلسلة الإبداعات أن العثور عليها فى الأسواق صعبة. وإن وجدت أى عمل منها، فلا بد أن يكون ذلك بصدفة غير قابلة للتكرار. وعندما حاولت عمل اشتراك فهمت أن الكتاب غير دوري. ليس له مواعيد ثابتة. واشتراكه صعب.
رضيت بالصدفة. ألم يقل أجدادنا «رب صدفة خير من ألف ميعاد» مؤلف الرواية: ألبرتو مينديس، وترجمها: عبد اللطيف الباري، وراجعها: فهد المطيري. والمترجم شقيق مغربى يعمل مديرا للمركز الثقافى المغربى الإسبانى «الأندلس» بمارتيل. يرأس تحرير مجلة: عن الكتب. المراجع يعمل أستاذا مساعدا لعلم اللغة النظري، كلية التربية الأساسية، الهيئة العامة للتعليم التطبيقى والتدريب.
الروائى أخيرا. وكان يجب أن يكون أولا ألبرتو مينديس مولود 1941، ومتوفى 2004، وهو ابن الشاعر فوسييه مينديس هيريرا، روائى من أصحاب العمر القصير. يمرون على الدنيا بشكل عابر. ومع هذا يتركون أثرا مرشحا للبقاء والاستمرار بعد رحيلهم.
ستصاب عزيزى القارئ بالدهشة عندما تعرف أن هذه الرواية نصه الأدبى الوحيد. ورغم أن النص الأول لأى روائى قد تكون فيه محاولات للتجريب أو البحث عن النفس أو محاولة الاهتداء لصوته الروائى وأسلوبه وتأسيس عالمه الخاص، إلا أن هذه الرواية القصيرة (172 صفحة من القطع المتوسط) شديدة النضج والتأثير وفيها حساسية كتابية جديدة تضيف كل ما هو جديد.
يجب ألا ننسى أن إسبانيا، وسأكتب بعدها الأندلس، كما كتب المترجم هى الوطن الذى أهدى للدنيا دون كيشوت، نص سرفانتس المؤسس، والذى خرج من رحمه كثير من الكتابات الروائية، ليس فى إسبانيا وحدها. ولكن فى العالم.
روايتنا القصيرة هذه طبعت منها بين يناير 2004، وديسمبر 2005، 9 طبعات، وقد شاء القدر ـ ولا راد لمشيئته ـ أن يرحل صاحبها عن عالمنا ولا يعيش مجده الأدبى الذى كان يستحقه عن جدارة.
عبد اللطيف البارى مترجم النص يكتب فى مقدمة شديدة التركيز أن الكاتب الإسبانى دافع دوماً عن التواضع وعما يعادله من تقشف إبداعي، ودافع عن ضرورة كتابة كل ما هو جوهرى فقط.
الرواية البديعة أربعة فصول. كل فصل يبدأ عنوانه بكلمة: هزيمة. من الهزيمة الأولى حتى الهزيمة الرابعة ولن تكون الأخيرة. الأولى عنوانها: الهزيمة الأولي: 1939. أو لو كان القلب يفكر لتوقف عن الخفقان. الهزيمة الثانية: 1940 أو مخطوط عثر عليه فى النسيان. وهذا الفصل سبق للروائى أن نشره مستقلاً ووصل إلى نهائيات الجائزة الدولية للقصص ماكس أوب 2002، ونشرته مؤسسة ماكس أوب، الهزيمة الثالثة: 1941، أو لغة الأموات. الهزيمة الرابعة: 1942، أو أزهار عباد الشمس العمياء. قلت إنها ليست الهزيمة الأخيرة، لأن جو الحكايات الأربع يوحى بأنها معزوفة من الهزائم التى لا نهاية لها. والمؤلف يهدى حكاياته لمن يعرفون معنى الغياب.
الهزائم تظهر فيها وجوه: جندى من أتباع فرانكو، أعلن استسلامه فى ظروف يصعب فهمها. وشاعر لجأ برفقة زوجته الحامل إلى ربوة قريبة من السماء. لأن قصائده تزعج. وسجين جمهورى يجد نفسه فى مواجهة والدى مجرم حرب. وراهب مفتون بسحر امرأة يسكن زوجها دولابا لأن أفكاره لا تروق للحكام.
لا يتصور أحد أن الروائى يأتى بكل حكاية منفصلة عن الأخري. فالتداخل بين عوالم وأبطال ذ أو الذين ليسوا أبطالا ذ للحكايات يفاجئونك بالظهور من حكاية لأخري. الأبطال عموماً يخوضون معارك غير متكافئة. يذكرونك أن هذا النص آتٍ من بلاد دون كيشوت الذى حارب طواحين الهواء. الهزيمة تنتقل من حكاية لأخرى وكأنها تحاول أن تقول لنا إنها حكايات زمن عاصف ومضطرب.
كان الروائى محظوظا بأنه اقترب من مرحلة قاتمة من تاريخ إسبانيا بأهوالها وفظاعاتها. بدناءة البعض ورقة البعض الأخلاقية. وتتداخل الوقائع والتفاصيل لتقدم لنا معرفة رفيعة عن الحرب الأهلية الإسبانية فى أبعادها الإنسانية وفى تأثيرها على مصائر الأفراد. هذا النص نبهنى ـ كما سبق أن نبه مترجمه ـ إلى أن الجحيم يذكرنا بكل شىء وأن الحب يظل فى جميع السياقات بمنزلة سند يمنحنا عنفوانا نحتاجه دوما. على الرغم من كل الفجائع والغرائب، مما يجعل هذه الأسئلة المتناسلة تفرض نفسها:
- لماذا وقع ما وقع؟ وهل يمكن ألا يقع من جديد؟ وهذا هو السؤال الأهم: هل سيشعر القارئ بالانهزام؟ أم أنه سيبحث عن دواعى أمل مرغوب فيه؟.
هذه رواية قائمة على التفاصيل البسيطة. وقد وفق الكاتب فى اختيارها لأنها تقلل من ثقل موضوع حارق. وهى تستند أحيانا على صمت صاخب، يعكس الانفعالات العميقة العنيفة للشخصيات وصراعها المرير مع ماضيها وتجاربها التى تحكى عنها بلوعة ورغبة أكيدة فى الإيصال والاقتسام.
وعلى الرغم من الأجواء القاتمة التى تهيمن على الرواية. إلا أنها القتامة التى يمكن أن تؤدى لصبح جديد. ألم نقل من قبل إن الضوء ربما كان فى آخر النفق؟ فى الرواية احتفاء بالإبداع والمبدعين. فيها - ضمن من فيها - شاعر ينشد أشعارا بين الرصاص. ومترجم لا يغادر منزله. وجندى فاشى يقضى وقته برسم أعلام ملونة. بالإضافة إلى الإشارة أو الاستشهاد بموتزارت وساليبري. وبالشعراء رامون كاخال وماتشادو ولوركا. بل أيضا نلتقى بألف ليلة وليلة. نصنا الذى قدمنا للعالم. وربما كان ورود ألف ليلة وليلة هو السبب الذى جعل المترجم يشير لإسبانيا بالأندلس.
إنها رواية مبدعين يضيئون ليل الهزيمة، وإبداعات تؤكد أن جوهر الإنسان يتمنع على الاستسلام. فضلا عن أن الكاتب يشرك القارئ فى عملية إبداع النص.