محمد جبريل
ع البحري.. العروبة.. هوية مصر
مصر هي آخر الأقطار العربية التي أعلنت هويتها. لكنها كانت البداية لتأكيد تلك الهوية في الوطن العربي جميعاً.
وإذا لم تكن سوريا ــ مثلاً ــ أو الأردن أو اليمن أو دول الخليج في حاجة إلي الكتب التي تدلل علي عروبتها. فلأن عروبة تلك الأقطار رقت عن مستوي الشك. بينما حفلت المكتبة بعشرات الكتب التي تؤكد الهوية العربية لمصر. ويضغط روبير مونتاني "1950" علي ان أحداً لم يكن يتوقع لفكرة العروبة ــ قبل خمسة عشر عاماً ــ أن تتطور علي هذا النحو.
والآن. فإن انتماء مصر العربي يبين عن نفسه. حتي في لغة التخاطب. وفي مفردات الحياة اليومية. فأنا أسأل عن هوية جاري. أجيب: نحن أولاد عرب. وحتي عام 1948 كان نصيب مصر في أموال الجامعة العربية يبلغ 42% من مجموع تلك الأموال. وحينما أنشئت أحياء للمصريين في بورسعيد والإسماعيلية. أعوام الاحتلال البريطاني. سمّاها المصريون ــ لا سواهم ــ حي العرب. ولعل الأعمال الدرامية المصرية قد أسهمت في تعميق المعني. من خلال التكلم باللهجات العربية. وتقديم الفنون التي تؤكد عروبة المنطقة. وتوافق ظروفها.
التيارات المختلفة. سواء كانت متباينة أو متوازية أو متلاقية. لم تخضع في مسارها لزمن محدد. فهي بعض أبعاد الشخصية المصرية فعلاً. وفق تطورها التاريخي وموقعها الجغرافي. الشخصية الفرعونية تجد امتداداتها في فجر الحضارة المصرية. والشخصية القبطية يصعب إغفالها منذ عصر الشهداء. أما الشخصية العربية. فإن بعض الاجتهادات تجد نواتها في الفتح العربي. بينما تنقب اجتهادات أخري. لتصل إلي توافق الأصول المصرية والعربية الأولي. أما الحضارة الغربية. فإن انتماء مصر الإسلامي ــ العربي. ثم جدار العزلة الذي فرضته عهود العثمانيين. لم يفقد مصر صفتها المتوسطية. وبالتالي فإن صلتها بالغرب ظلت قائمة حتي من قبل مجيء الحملة الفرنسية.
كل ما في الأمر ان تأكيد الشخصية المصرية الذي بدأ يفرض نفسه. ربما منذ ثورة العرابيين. جعل من تباين الانتماء إلي أي من تلك التيارات. صراعاً أو ما يشبه الصراع. وقد امتد الصراع في مساحة زمنية عريضة. وتراوح فيها كل تيار بين الخصوبة والجفاف.
وإلي قيام ثورة يوليو. كانت الفكرة العربية غير واضحة في برامج الأحزاب المصرية. وكانت غائبة تماماً في برامج معظم الأحزاب. بل انه حين تأكد صوت القومية العربية وعمق. فإن الاتجاهات الأخري ــ ما بين فرعونية وغربية وغيرها ــ لم تفقد أصواتها تماماً. بل إن بعض أصدائها لاتزال تتردد في حياتنا الثقافية حتي الآن. وأغلب الظن انها ستظل تتردد لأجيال أخري قادمة. بصرف النظر عن ارتفاع الصوت أم خفوته.
والواقع ان الفترات التي تحول فيها الحكيم وطه حسين ومحمد حسين هيكل وسلامة موسي وحسين فوزي وغيرهم من دعواتهم إلي الفرعونية. أو التغريب. إلخ.. والاتجاه شرقاً فيما يبدو تناقضاً حاداً. كانت أقصر من أن تتيح لجملة أدباء أن يراجعوا مواقفهم. ثم ان يتحولوا عن أفكارهم إلي أفكار أخري هي أقرب إلي التضاد. وهو ما يعكس الحيرة التي كانت تتوزع المثقفين المصريين نشداناً للمرفأ الذي تجد فيه الذات المصرية خصائصها الحقيقية ومقوماتها.
كانت كل الروافد تتجه إلي نهر واحد. هو نهر الثقافة المصرية التي تعبر عن الشخصية المصرية. والهموم المصرية. والوجدان المصري. وقد أفرزت تلك التيارات ثمارها. وهي ثمار مصرية غرست في الأرض العربية. فهي عربية التاريخ واللغة والثقافة والهموم المشتركة.