المصريون
جمال سلطان
العساكر .. وهذي الضجة الكبرى علاما ؟!
شاهدت أمس الفيلم التسجيلي "العساكر.." الذي أنتجته قناة الجزيرة القطرية ، والذي يتعرض لحياة المجندين داخل صفوف القوات المسلحة في مصر ، لم أكن أعرف شيئا عن هذا الفيلم ولا انتبهت له ، لكن لاحظت حالة هياج كبيرة في الإعلام المصري ، صحفا وفضائيات وصفحات التواصل الاجتماعي ، فتوهمت أن هناك حدثا جللا ، ورغم أن الفيلم لم يكن قد عرض بعد إلا أني توقعت أنه خطير للغاية فعلا لدرجة أن تثار كل هذه الزوبعة عنه ولدرجة أن يقدم بلاغ ضده لدى النائب العام رغم أنه لم يبث بعد ولا يعرف ما فيه بالضبط ، وزاد من توتري تجاه الفيلم أن كثيرا من الأصوات الزاعقة هي من المقربين لبعض الأجهزة النافذة ، والمؤكد ـ وفق هذا المعنى ـ أن التوتر والغضب كان من تلك الجهات وأنها طلبت من أذرعها الإعلامية أن تدافع عن سمعة الوطن حسب تصورها ، وهذا ما جعلني حريصا على أن أشاهد هذا الفيلم ، رغم أني من مقاطعي التلفزيون من زمن بعيد نسبيا . الفيلم عادي من الناحية الفنية ، يمكن أن نقول أنه متوسط ، واختياراته السردية محدودة وضعيفة ، والمشاهد التمثيلية غلبت عليه مما يضعف القناعة بما يطرحه ، وكان واضحا أنه تم "سلقه" ولا يمكن وصفه بالعمل "المتعوب عليه" بالمعنى الحرفي ، وأعتقد جازما أنه لولا الضجة التي أحدثتها "جعجعة" الأذرع الإعلامية المصرية والهستريا التي أشاعوها عبر الفضاء لما انتبه كثيرون لهذا الفيلم ، ولمر مرور الكرام دون أن يشعر به أحد ، ربما باستثناء قلة من المهتمين فقط ، وأزعم جازما أيضا أن 90% من الدعاية الترويجية لهذا الفيلم قام بها ـ مجانا ـ الإعلام المصري نفسه ، فخدم الفيلم ومخرجه والقناة المنتجة له بما لم تكن تحلم به أو تتصوره ، وهذا من عواقب "الغشومية" التي يدار بها الإعلام المصري ، والاعتماد على بعض المهرجين المتزلفين الذين ينشغلون بمحاولة إرضاء "الراعي" ، صاحب الحماية والإنعام ، أكثر من عملهم لخدمة وطنهم بالفعل والدفاع عن مؤسساته وأمنه القومي . أسوأ ما في تلك القصة الغريبة هو الصورة الأخلاقية المتدنية بل المنحطة التي صدرت عن إعلاميين مصريين محسوبين على النظام أو مدعين للدفاع عن الجيش والوطن ، مستوى الشتائم والردح والبذاءة والمساس بالأعراض لا يمكن تصور صدوره من أي دولة تحترم مكانتها وحضارتها وثقافتها وهيبتها بين الناس ، لم تكن المشكلة أن تنقد العمل أو أن تسفهه ، فهذا حق وربما واجب ، ولكن المشكلة أن تهين وطنك وتمرغ سمعته في الوحل بهذا السلوك البائس والفاحش ، كمن أراد نفض الغبار عن وجه أمه فألقى عليه الوحل ، ليست هذه أخلاق مصر وشعبها ، ليس هذا مستوى نخبتها ، ولا يمكن أن تكون هذه البذاءة معبرة عن ثقافتها التي ظلت المرجعية والمثال للثقافة العربية من المحيط إلى الخليج طوال قرن من الزمان ، ليست هذه مصر ، وإنما هؤلاء صندوق قمامتها . لقد نشرت قنوات تليفزيونية عالمية عديدة تقارير محرجة بل ومشنعة على بعض الجيوش ، فعلت ذلك البي بي سي البريطانية مع الجيش المصري والجيش الأمريكي وجيوش أخرى ، وفعلت ذلك قنوات أمريكية عن الجيش الأمريكي نفسه واتهمته باتهامات رهيبة في العراق وأفغانستان وغيرها ، وفعلت ذلك قناة الجزيرة نفسها عن الجيش الإسرائيلي وغيره ، ولم يهتز أحد ولا ثارت زوابع فضلا عن ذلك السيل من البذاءات والرعونة الإعلامية التي تعبر عن ضحالة وقلة خبرة ، وإنما جرت بعض النقاشات وربما الردود حول ما ورد في تلك الأفلام التسجيلية ، وبعضها انتهى إلى تحقيقات قضائية في الوقائع التي ذكرت . لقد أساء قطاع من الإعلام المصري إلى الوطن ، وأهان صورتنا جميعا أمام أشقائنا العرب في كل مكان ، فضلا عن العالم الذي يراقب أحوال مصر وتحولاتها ، كما أساء هؤلاء إلى قواتنا المسلحة التي لا يمكن أن يهزها ولا أن ينال منها فيلم ولا قناة تليفزيونية أيا كانت ، وأرجو أن يكون فيما جرى درس لكي يعاد النظر في منظومة "الأذرع" الإعلامية التافهة والهشة وكوادرها المثيرة للشفقة ، وفي آليات التعاطي مع النقد الإعلامي أيا كان مصدره ، خاصة في مرحلة جديدة من تاريخ البشرية تتسم بالسماوات المفتوحة وتعدد مفاتيح التأثير على العقول وانسياب المعلومات بسهولة عبر آليات ووسائل وقنوات يستحيل غلقها ، ولا يمكنك الاشتباك معها بالغضب والصراخ والزعيق والشتائم ، وإنما بالمنطق والعقل والخبرة والوعي الذي يفرض احترامك على خصمك ويصنع لك هيبة الثقة بالنفس والقدرات .

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف