صلاح سالم
هل يجسد ترامب نبوءة دى توكفيل؟
يشبه تصويت الأمريكيين لمصلحة ترامب من زوايا كثيرة تصويت البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، وخصوصا على صعيد الشعور العام بالإثم الذى عبر عنه قسم كبير من الجماهير عقب التصويت، سواء فى بريطانيا ندما على الخروج من الجنة الأوروبية على نحو دفع البعض إلى المطالبة بإعادة التصويت على القرار، أو فى الولايات المتحدة إلى حد التظاهر العنيف فى بعض الولايات وجمع توقيعات للتأثير على أعضاء المجمع الانتخابى الذى سيعقد فى 19 ديسمبر لتأكيد انتخاب ترامب بشكل نهائي، فى سلوك سياسى نادرا ما يحدث فى إحدى أعرق التقاليد الديمقراطية.
لم يكن غريبا أن يدعو ترامب، من موقعه كمرشح للحزب الجمهوري، البريطانيين إلى التصويت لمصلحة الخروج من الاتحاد، كونه انعزاليا يرفض فكرة الاتحاد فى أصولها، وكونه شبه عنصرى يرى فى العزلة البريطانية العظيمة عن القارة مجدا قديما، فالمغامرون كالفوضويين، لا يطيقون العمل الجماعي، ولا الكيانات ذات الطبيعة المركبة أو البناء المعقد. لا ندعى هنا أن دعوة ترامب أثرت فى الناخب البريطاني، بل نزعم فقط توافقا فى المزاج السياسى لدى الشعوب، التى تسعى أحيانا إلى خوض مغامرة التغيير ولو كانت غير مأمونة العاقبة.
فى الحالين هاتين ثمة رفض لأمر واقع أقره الصندوق الانتخابي، ذلك الجسم الزجاجى الشفاف الذى منحته الحداثة السياسية ثقتها، ولم تجد سواه حكما بين المتنافسين، رغم ما يثيره بين الحين والآخر من مخاطر كانت الفلسفة السياسية قد عبرت عنها، منذ بواكيرها الأولى مع أفلاطون فى كتابه التأسيسى (الجمهورية) حينما أبدت شكوكها العميقة إزاء الجماهير التى قد تفتقر إلى الحكمة، أو القدرة على تحكيم العقل، ومن ثم تقع فى خطر الغواية والخداع، ولذا وضع أفلاطون الحكم الديمقراطى فى المرتبة الدنيا بعد حكم الفرد المستنير (الملكي) وحكم القلة (الأرستقراطي) وإن تخفف قليلا من سطوة هذا الرأى فى كتاب (القوانين) معتبرا أن الحكم الديمقراطى يمكن أن يكون جيدا ولكن بشروط أهمها التوعية التى تكسب الجماهير الحد الأدنى اللازم من ملكة الحكم على الأشياء، ولذا كانت الديمقراطية الأثينية بتأثير الفيلسوف الأكثر مثالية فى التاريخ، قد استبعدت العديد من الفئات من دائرة اهتمامها، ومن مسئولية النهوض بأعبائها، بل إنها حرمتهم من صفة المواطن.
هذه الروح المحافظة التى كشفت عنها الفلسفة السياسية إزاء الفرد/ الناخب غير الرشيد، هى نفسها التى كانت الفلسفة التأملية قد عبرت عنها تقريبا إزاء الفرد/ العادي، العاجز عن مقاربة المقولات الفلسفية وممارسة التأمل العقلي، على نحو دفع كثيرين فى دنيا الفكر الفلسفى منذ الهرمسية القديمة، والغنوصية التقليدية (أى المعرفة القائمة على الاستبطان الروحى لا التدليل العقلى)، إلى فلاسفة الإسلام خصوصا الفارابى وابن رشد، إلى القول بعلم الخواص، حيث يمكن تداول القضايا الفلسفية، ومقاربة الحقائق المعرفية (برهانيا)، فى مقابل علم العوام، العاجزين عن ذلك، ومن ثم يتوجب إبعادهم عن تلك القضايا حتى لا يقعون فى مواقع الزلل مع الاكتفاء بوعظهم وتوجيههم (خطابيا) إلى الحقيقة التى يكتشفها الخواص. بل إن كانط العظيم، من قلب الحداثة الأوروبية ومن فوق الذروة التنويرية التى أعلت العقل إلى أعلى المقامات الممكنة، قد اعتبر الدين طريقا بلاغيا لتبليغ العقل العام (عوام الناس) الحقائق الفلسفية المجردة التى لا يستطيع مقاربتها مباشرة، وكأن الفلسفة هنا حمض مركز أو مادة قلوية، بينما الدين محلول تذاب فيه هاتين، لتقل درجة تركيزهما فيقل خطرهما ويمكن التعامل معهما، وهكذا وثق كانط فى العقل الإنسانى المجرد، لكنه لم يثق بالقدر نفسه فى بعض العقول البشرية المتعينة. وهى الفجوة التى حاول جان جاك روسو، على الرغم من رومانسيته، ومن سبقه الزمنى لكانط، أن يسدها من خلال مفهومه الأثير عن قابلية الإنسان للكمال، والكمال لديه ليس كمالا أخلاقيا يصبح معه الإنسان معصوما من الزلل مثلا، ولكنه قابلية هذا الإنسان للتعلم والتثقيف والتربية بغية اكتساب ملكة الحكم على الأشياء، حيث صارت نظم التربية والتعليم التى اقترحها فى (إميل) أساسا لتعليم وتثقيف الإنسان/ المواطن ليكون قادرا بالتدريج على إعمال العقل والإرادة.
والحق أن ما ذهبت إليه الفلسفة التأملية حينا حول القصور العقلى للعوام، أو الفلسفة السياسية حول تهافت الإرادة لدى الجماهير قد مثل هاجسا للكثير من التجارب الديمقراطية حتى فى العالم الأول، حيث ترددت دول رائدة فى منح حق التصويت لفئات معينة، فلم تمنح المرأة حق التصويت فى بريطانيا نفسها إلا فى الربع الثانى من القرن العشرين، ناهيك عن العبيد حتى الحرب الأهلية الأمريكية، كما اقترن حق التصويت طويلا بدافع الضرائب، كونه مالكا لشىء ما أو حائزا لقيمة يفترض أنه سيصوت بحس مسئول خشية تهديدها، قياسا إلى من لا يملك، والذى قد تتسم إرادته بالفوضوية. ولعل هذا الجذر هو منبت جل التيارات المحافظة فى الفكر السياسى كله، فحتى التلاوين العنصرية من هذا الفكر المحافظ، إنما تتجذر فى مشاعر الخوف على صورة نقية من فكرة دينية أو قومية، بافتراض إن ذلك ممكنا أو إن هناك من الأصل أفكارا أو أجناسا أو أديانا نقية تماما، لم تلوثها أو تؤثر فيها أى احتكاكات بالآخرين، بل إن مفكرين سياسيين محدثين كبارا مثل الفرنسى ألكسيس دى توكفيل قد عبروا عن نزعات محافظة، إلى درجة مخيفة تبدت لديه حينما زار الولايات المتحدة فى نهاية خمسينيات القرن التاسع عشر، ورأى فيها حرية منفلتة، فهل يمثل ترامب نبوءة دى توكفيل؟.